ويسأل عما إذا كان يجب عليه الاستمرار في الوفاء بهذا الشرط وما إذا كان يحق لزوجته طلب الطلاق ما دام أنه لم يستطع الوفاء بما اشترطته عليه؟
من المعروف أن هناك شروطًا تقع عند عقد الزواج، قد تكون من الزوج، وقد تكون من الزوجة أو أهلها. ورغم قبول الزوج بهذه الشروط، وعزمه على الوفاء بها، فقد ينفر منها طبعه وتأباها نفسه، إضافة إلى أنها قد تتعارض مع ما يحدث له من تقلب الحيـاة، وتغير الأحوال فيكون الوفاء بها ميسورًا في الحال، وصعبًا أو متعذرًا في حال أخرى؛ فقد تشترط عليه الزوجة ألا يسافر بها من موطنها فتلجئه أحوال حياته فينتقل من مكان إلى آخر، وقد تشترط عليه سكنا معينا فتتغير أحواله فيتعذر عليه الوفاء بشرطها، وقد تشترط عليه ألا يتزوج عليها، فيكون في حال يصعب عليه الوفاء بهذا الشرط وهكذا، ولعل الزواج أقوم وأبقى إذا خلا من الشروط؛ لأن ما يسهل على النفس سوف تقبله، وما لا فلا. أما إذا وقع الشرط فقد أصبح الوفاء به لازما، ما دام أنه لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا.
وللفقهاء في الشروط في عقد الزواج آراء متباينة:
فالإمام مالك يكرهها: وقال: “أشـرت على قـاض من عبـدان أن ينهى الناس أن يـتـزوجـوا عـلى الـشـروط”. وفي المذهب من أجاز الشروط المطلقة عملا بقول رسول الله ﷺ: (أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج)([1])، ولكن المعروف في المذهب أنها لا تلزم، وإنما يستحب الوفاء بها([2]).
وفي المذهب الشافعي: يبطل الشرط إذا خالف مقتضى العقد، ولا يبطل العقـد كما لو كان الشرط ألا ينقلهـا من بلدها أو لايتزوج عليها([3]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن الشروط في الزواج على ثلاثة أقسام:
الأول: ماكان لمصلحة الزوجة: كما لو اشترط لها ألا يخرجها من بلدها، أو لا يتزوج عليها فهذا مما يلزمه الوفاء به؛ استدلالا بقول النبي ﷺ في الحديث الأنف الذكر: (أحق الشروط أن توفوا بها ما استعلام له الفروج)؛ واستدلالًا بما روي أن رجلا تزوج امراة وشرط لها دارها، ثم أراد نقلها فخاصمه أهلها إلى عمربن الخطاب -رضي الله عنه- فقال عمر: لها شرطها، فقال الرجل: إذا تطلقنا النساء فقال عمر “مقاطع الحقوق عند الشروط “([4]).
القسم الثاني: الشروط المنافية لمقتضى العقد: كما لو شرط أن لا يعطيها مهرًا، أو أن لا ينفق عليها، أو شرط عليها أن تعمل لتنفق عليه، أو تبيع وتشتري لصالحه، فهذه الشروط غير صحيحة لمنافاتها مقتضى العقد فيبطل الشرط، ويصح العقد.
القسم الثالث: الشروط الباطلة في ذاتها: مثل توقيت الزواج كحال زواج المتعة، أو جعل الزواج معلقًا على شرط رضا طرف آخر، أو كان على شرط الخيار([5]).
وقد سئل الإمام ابن تيمية عن رجل شرط على امرأته أن لا يسكنها في منزل أبيه، فكانت مدة السكني منفردة، وهو عاجز عن ذلك، فهل يجب عليه ذلك؟ وهل لها أن تفسخ النكاح إذا أراد إبطال الشرط؟ فأجاب رحمه الله أنه “لا يجب عليه ما هو عاجز عنه، لاسيما إذا شرطت الرضا بذلك، بل إذا كان قادرا على مسكن آخر لم يكن لها عند كثير من أهل العلم غير ما شرط لها، فكيف إذا كان عاجزا وليس لها أن تفسخ النكاح عند هؤلاء، وإن كان قادرا، فأما إذا كان ذلك للسكن ويصلح لسكني الفقير، وهو عاجز من غيره، فليس لها أن تفسخ بلا نزاع بين الفقهاء([6])، ومما سبق يتبين أن الفقهاء على فريقين:
الأول يقول ببطلان شروط الزوجة ذات الفائدة لها مثل شرطها عدم الزواج عليها: ومن هؤلاء الإمام مالك والشافعي واستدلوا على ذلك بقول رسول الله ﷺ (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط)([7]). وقوله: (المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حراما)([8]).
فإذا اشترطت عليه -مثلًا- ألا يتزوج عليها فهذا الشرط مما يحرم ما أحل الله وهو الزواج.
أما الفريق الثاني فيستدل على جواز الشروط بقول النبي ﷺ: (أحق ما وفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)([9]). هذا من حيث العموم في الشروط في عقد الزواج.
أما من حيث المسالة فإن الوفاء بشرط الزوجة عدم سكناها مع والدي الزوج، سوف يؤدي الي عقوقهما والعقوق معصية كبرى؛ لأن الله أمر الولد ببر والديه في قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، والأمر يعني الإلزام والتكليف، ولما كان أمر الله أحق وألزم بالطاعة، فإن شرط الزوجة يعتبر مخالفا لأمر الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق([10]).
وخلاصة المسألة: أنه لا يجب على الزوج الاستمرار في الوفاء بشرط زوجته لما يؤدي إليه ذلك من عقوق والديه، والعقوق معصية كبرى لأوامر الله، وأمره فرض.
والله أعلم.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الشروط في النكاح، برقم (٥١٥١).
([2]) مقدمات ابن رشد مع المدونة، ج۲ ص59-60، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب مع التاج والإكليل، ج3 ص٤٤٦-٤٤٧، وشرح منح الجليل على مختصر خليل لعلیش، ج۳ ص۳۰۲-303، والقوانين الفقهية لابن جزي، ص١٤٥-١٤٦.
([3]) المجموع، ج 16 ص 250 ونهاية المحتاج، ج6 ص ٣٤٣-٣٤٤، والأم، ج5 ص ٧٣-٧٤.
([4]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج9 ص 125 ـ 126، قال الألباني في إرواء الغليل، (٦/٣٠٤): إسناده صحيح على شرط الشيخين.
([5]) المغني والشرح الكبير، ج۷ ص ٤٤٨-٤٥١، وانظر شرح الزركشي على مختصر الخرقي، ج5 ص۱۳۹ ١٤١, والروض المربع شرح زاد المستقنع، ج ۳ ص۸۸. وكشاف كشاف القناع عن متن القناع ج5 ص90-91.
([6]) مجموع فتاوی ابن تيمية، ج٣٢ ص168.
([7]) أخرجه النسائي في كتاب النكاح، باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك، سنن النسائي ج6 ص165، وأخرجه ابن ماجه في كتاب العتق، باب المكاتب برقم (٢٥٢١)، سنن ابن ماجه ج۲ ص ٨٤٣، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٤٥٣٠).
([8]) أخرجه البخاري في كتاب الإجارة باب أجر السمسرة ورقمه (14) ج4 ص 527-528، وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله ﷺ في الصلح بين الناس، برقم (١٣٥٢)، ج3 ص634-635.
([9]) أخرجه البخاري في كتاب الشروط باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح برقم (2721) فتح الباري ج5 ص380.
([10]) أخرجه الترمذي في كتاب الجهاد، باب لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، برقم (1707)، ج4 ص182، بلفظ: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره مالم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة) صححه الألباني في صحيح الجامع، (٧٥٢٠).