والجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: مدى حق المستأجر في استعمال المأجور: ويحكم هذا قاعدتان:
القاعدة الأولى: العقد، وهو ما التزم به الإنسان، وعقده على نفسه طائعًا غيرَ مكرهٍ في علاقته الدنيوية من بيع وشراء وإجارة ونحو ذلك، ناهيك عما التزم به، وعقده على نفسه من أفعال الطاعات كالصوم والنذر ونحو ذلك.
ويبين عقد الإجارة الغرض الذي أراده المستأجر من إجارته، فإن كان هذا العقد ينص على غرض المستأجر في السكن لم يحق له استعمال الدار لأي غرض آخر إلا بإذن صاحبها أو وكيله؛ ذلك أن الوفاء بالعقد أمر شرعي لازم، يجب الوفاء به؛ لقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بالْعُقُود} [المائدة: 1]، وقوله-تعالى-: {وَأَوْفُواْ بالْعَهْد إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا} [الإسراء: 34]، ولقول رسوله-ﷺ-: (المسلمون على شروطهم)([1]).
القاعدة الثانية: العرف، وله سلطان واضح في تقرير الحكم في غياب إرادة المؤجر والمستأجر في الغرض من الإجارة، فإذا كانت الدار مثلًا تقع في حي يسكنه الناس فلا حجة للمستأجر في استعمال الدار لخزن بضائعه، أو وضع حيواناته؛ ذلك أن المالك قد انصرف ذهنه إلى ما يجري عليه الحال في الحي، والعكس بالعكس.
وقد أكد الفقه الإسلامي أهمية العرف، والاستدلال به، وساد في التطبيق القضائي عدد من القواعد الفقهية الشهيرة في المذهب الحنفي، منها: أن “العادة محكمة”([2])، ومنها: “واستعمال الناس حجة يجب العمل بها”([3])، ومنها: أن “المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا”([4])، ومنها: أن “التعيين بالعرف كالتعيين بالنص”([5]).
الوجه الثاني: مدى حق المالك في التعويض عن الضرر الذي أصاب داره، والمبنى الشرعي في هذا الوجه: أن العين المؤجرة أمانة لدى المستأجر، ويترتب على هذا مسؤوليته عن الضرر في حال التعدي أو الإهمال.
وفي المذهب الحنفي: أن المأجور إذا هلك في يد المستأجر بغير صنعه فلا ضمان عليه؛ لأن الأصل ألا يجب الضمان إلا على المتعدي؛ لقوله-عز وجل-: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِين} [البقرة: 193]، وطالما كان التعدي لم يوجد من الأجير، والهلاك ليس من صنعه، فلا يجب عليه الضمان([6]).
وفي المذهب المالكي: أن “المستولي على شيء بإجارة أو كراء، سواءٌ كان مستأجرًا أم مؤجرًا أمين على ما استولى عليه، فلا ضمان عليه لما تلف بغير تعدٍّ ولا تفريط منه، ويُصدق في دعوى التلف أو الضياع، ولو فيما يغلب عليه”([7])، وقد اسْتُثْنِيَ من ذلك الصناع والأكرياء على حمل الطعام والشراب والإدام خاصة؛ لتسارع الأيدي لها، فضمنوا، إلا أن تقوم بينة بهلاكه بغير سببهم، أو يكون معه أربابه لم يسلموه إليهم، فلا يضمنون([8]).
وفي المذهب الشافعي مثل ذلك، أي: الضمان في حال التعدي على العين المؤجرة، والمعيار في ذلك: ما كان “فوق العادة” بالنسبة لمثل العين، كمن أسكن في الدار حدادًا أو قصارًا أشد ضررًا مما استأجر له([9]).
وفي المذهب الحنبلي: مثل ذلك على تفصيل فيه، فمتى تلفت العين المستأجرة بلا تفريط فلا ضمان على المستأجر؛ لأنه قبضها لاستيفاء منفعة يستحقها منها، فكانت أمانة، ولكن هل يضمن العين إذا شرط المؤجر ذلك عليه؟.
والجواب: أن هذا الشرط فاسد؛ لمنافاته مقتضى العقد؛ استدلالًا بقول ابن عمر: “لا يصلح الكراء بالضمان”، وأن فقهاء المدينة كانوا يقولون: لا نكتري بضمان.
ويستثنى من ذلك من اشترط على كَرِيٍّ ألا ينزل بمتاعه بطن واد، أو لا يسير به ليلًا، ونحو ذلك، فتعدى الكريُّ، فتلف شيء مما حمل في ذلك التعدي، فهو ضامن”([10]).
وينبني على هذا أن الدار المستأجرة المذكورة في السؤال أمانة في يد المستأجر، لا يجوز له استعمالها إلا للغرض المراد من إجارتها، فإن كانت مخصصة للسكن بحكم العقد أو العرف فلا يجوز له استعمالها لغير هذا الغرض، كخزن البضائع أو نحوها، وإن كانت مخصصة لإسكان عدد محدود من الناس فلا يجوز له أن يُسْكِنَ فيها أكثر من استيعابها وطاقتها.
وفي كل الأحوال يضمن ما يصيب الدار من ضرر إذا فرط أو أهمل في استعمالها.
ووجوه التفريط كثيرة، منها على سبيل المثال: ترك أبوابها للتسوس دون محاولة علاجها، ومنها: عدم العناية بمجاري مياهها ونظافتها، ومنها: وضع مواد مشتعلة فيها؛ مما أدى إلى انفجارها، وإحداث الضرر فيها، ونحو ذلك، والعقد أو العرف هما المعياران في تقرير الإفراط أو الإهمال.
والله أعلم
([1]) أخرجه ابن ماجة في سننه، كتاب الأحكام، باب في الصلح، برقم (2353)، وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله-ﷺ-في الصلح بين الناس، برقم (1352)، سنن الترمذي، ج3 ص 634 – 635، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٦٧١٤).
([2]) مجلة الأحكام العدلية، المادة 36.
([3]) مجلة الأحكام العدلية، المادة 37.
([4]) مجلة الأحكام العدلية، المادة 43.
([5]) مجلة الأحكام العدلية، المادة 45.
([7]) شرح منح الجليل، ج7 ص507-508.
([8]) شرح منح الجليل ج7 ص507-508، وانظر: بداية المجتهد، ج2 ص231-232.
([9]) نهاية المحتاج، ج5 ص308-313.
([10]) المغني والشرح الكبير، ج6 ص117-119، وكشاف القناع، ج1 ص37-38.