ويسأل السائل عما إذا كان من الجائز للمؤجر أن يفرض هذا المبلغ عليه وعلى أمثاله.
والجواب: أن من الأمور المعروفة في مسائل الإيجار أنها تخضع للعقد بين المؤجر والمستأجر وفقًا لتراضيهما واتفاقهما على هذه المسائل، ويتأثر هذا العقد في الغالب بعرف الزمان والمكان، والأصل أن تراعى فيه مصلحة المتعاقدين، فالمؤجر يريد ثمنًا لاستغلال ملكه، والمستأجر يريد الاستمتاع بمنافعه لقاء ما يدفعه ثمناً لها.
ورغم تراضي طرفي العقد على ما عقداه فإن ثمة أحكامًا شرعيةً يجب أن تحكم هذا العقد؛ حفاظًا على مصلحة طرفيه، وعدم طغيان مصلحة أحدهما على مصلحة الآخر، فرغم أن العقد يتم بالتراضي بين طرفيه إلا أن هذا التراضي قد يكون ظاهريًّا، بينما يشوبه في حقيقته الغبن والاستغلال، فالمستأجر قد يضطر لقبول ما يفرضه عليه المؤجر من أجر باهظ لأنه في حاجة للسكن، والمؤجر قد يضطر للتأجير بأجر لا يتساوى مع خسارته؛ لأنه في حاجة لاستغلال ملكه.
وقد تعرض الفقه لعدد من المسائل والأحكام التي تحكم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، فأوجبت هذه الأحكام على رب الدار إصلاح ما يتعلق بذات ملكه، وما تعود منفعته إليه، وأوجبت على المستأجر إصلاح ما كان أثرًا لمنفعته.
ففي المذهب الحنفي: أن تطيين الدار، وإصلاح ميزابها، وما وَهَى من بنائها من مسؤولية صاحبها؛ لأن الدار ملكه، وإصلاح الملك على صاحبه، ولكنْ لا يجبر على هذا الإصلاح، وللمستأجر في حال عدم إصلاح الدار الخروج منها؛ لكون ذلك خللًا في محل العقد، أما المستأجر فيلزمه نقل ما كان من فعله أو من آثار سكنه، ومن ذلك مثلًا: رفع التراب الذي حدث من كنسه، وإخراج ما امتلأ من المجاري بفعله([1]).
وقد أوردت مجلة الأحكام العدلية هذا الحكم في المادة (532)، ونصها: “فإزالة الغبار والتراب والكناسة والرماد وغير ذلك أثناء مدة الإجارة على المستأجر”.
وفي شرح المجلة: “أن ذلك واجب المستأجر، ولو لم يكن هناك شرط، ولكن لو شرط هذا الشرط فلا يكون مفسدًا لعقد الإجارة، غير أن شرطه على الآجر يفسدها”.
كما نظمت المادة (533) العلاقة بين المؤجر والمستأجر في حالة خراب المأجور، ونصها: “إن كان المستأجر يخرب المأجور بإحدى الصور، ولم يقدر الآجر على منعه، راجع الحاكم، وفسخ الإجارة، والخراب مثل: قلع البلاط أو الأخشاب، فإن بَلِيَ المأجور باستعمال المستأجر إياه حسب المعتاد فلا يُسْأل عن ذلك”([2]).
وفي المذهب المالكي: يجوز اشتراط كنس التراب، وغسالة الحمام على المكري، أي: ما يكون بعد عقد الكراء، وأما ما قبل العقد فهو عليه، شُرِطَ عليه أم لا، كما لو كان في أحد البيوت المكتراة شيء، فإنَّ على المكري إزالتَه، وتفريغ البيت للمكتري، كما أن على المكري إصلاحَ ما وَهَى من الجدران والبيوت.
وللإمام مالك -رحمه الله – “أن من اكترى دارًا أو حمامًا على أن ما احتاج إليه من مرمة رمها المكتري، فإنْ شَرَطَا أن ذلك من الكراء جاز، ولو شرط أن ما عجز عنه الكراء أنفقه الساكن من عنده، فلا يجوز، ولا يجوز أن يشترط عليه من يسير مرمة، إلا أن يكون ذلك من كرائها”([3]).
وكما في المذهب الحنفي ففي مذهب الإمام مالك: إن حدث خلل في العقار قبل تمام مدته فالأولى ألا يجبر الآجر على إصلاح ما انهدم من العقار الذي أكراه مطلقًا عن تقييده بعدم إضراره بالمكتري، وحدوثه بعد العقد، وإمكان السكنى معه، ويخير المكتري بين السكن بجميع الكراء والخروج([4]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: أن عمارة الدار على المؤجر، كتطيين السطح، وإعادة الرخام الذي قلعه هو أو غيره، وإن احتاجت الدار لآلات جديدة، فإن بادر وأصلحها فذلك، وإن لم يبادر فللمكتري الخيار -إن نقصت المنفعة- بين الفسخ والإبقاء لتضرره، ولكن عليه كنس الثلج عن السطح الذي لا ينتفع به الساكن (كالجملون)، وتنظيف عرصة الدار وسطحها الذي ينتفع به ساكنها، وما يسقط من نحو قشر وطعام ورماد الحمام، ولا يجبر المكري على ذلك، وبعد انقضاء المدة يجبر المكتري على نقل الكناسة، وتفريغ البالوعة مما حصل فيها بفعله، “ولا يجبر على ذلك بعد انقضاء المدة، وفارقا الكناسة بأنهما نشآ عما لا بد منه بخلافها، وبأن العرف فيها رفعها أولًا فأولًا بخلافهما”([5]).
وفي المذهب الحنبلي تفصيل سهل، وتحليل فقهي رائع للعلاقة بين المؤجر والمستأجر أثناء مدة الإجارة، وخلاصته: أن على المكري ما يُمكن به المكتري من الانتفاع، وعليه (أي المكري) بناء الحائط إذا سقط، وإبدال خشبه إن انكسر، وعليه كذلك تبليط الحمام، وعمل الأبواب ومجرى الماء؛ لأن بذلك يتمكنُ المكتري من الانتفاع.
أما ما كان لاستيفاء المنافع (كالحبل والدلو) فعلى المكتري، وأما التحسين والتزويق فلا يُلْزَمُ أحدٌ منهما؛ لأن الانتفاع ممكن بدونه، وأما تنقية البالوعة فإن احتيج إلى ذلك عند الكراء فعلى المكري؛ لأن ذلك يُتمكنُ به من الانتفاع، فإن امتلأت البالوعة بفعل المكتري فعليه تفريغها؛ لأن ذلك حصل بفعله، فكان عليه تنظيفها كما لو طرح فيها قماشًا، وإن انقضت الإجارة وفي الدار “زبل أو قمامة” من فعل الساكن فعليه نقله.
وإن شرط المكري الإنفاق على العين النفقة الواجبة عليه كعمارة الحمام، فالشرط فاسد؛ لأن العين ملك له، فنفقتها عليه، وإذا أنفق المكتري بناء على هذا احتسبه على المكري؛ لأنه أنفقه على ملكه بشرط العوض([6]).
ومع بعض الفوارق في اجتهاد الفقهاء -رحمهم الله – بفعل ما كان يسود أزمنتَهم وأمكنتَهم من أعراف وعادات، فإن الأصل هو أن يكون المؤجر مسؤولًا عن إصلاح ملكه مما يعود له في الأصل، وأن على المستأجر تبِعةَ ما يفعله، أو يحْدُثُ منه في المأجور، وإذا شرط المؤجر على المستأجر شرطًا ليس من واجبه فالشرط فاسد.
ويتبين من سؤال السائل أن المؤجر أو المالك قد افترض ابتداء حدوث الضرر من المستأجر، وهذا الافتراض قد يقع، وقد لا يقع، فإذا رتب عليه نتيجة مسبقة، أي: شَرَطَ مبلغًا عن ضرر لم يقع، فالشرط فاسد، وذلك لجهالة محل العوض، ولا شك أن استحلال المؤجر لهذا المبلغ يعتبر من أكل الأموال بالباطل المحرم بنص القرآن في قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبَاطل} [النساء: 29]، وهذا شامل لكل أصناف المكاسب المحرمة من قمار وربا واستغلال وظلم.
والأصل أن يُنْظر بعد خروج المستأجر من (الشقة) أو الدار، فإن كان قد وقع فيها ضرر بالفعل، فينظر إن كان بسبب خلل في الدار نفسها، كوجود خطأ في مجاريها الصحية، أو خطأ في رسم إضاءتها، أو خطأ في وضع وترتيب بلاطها، أو نحو ذلك من العيوب والأخطاء المتأتية من وضعها، فهذه من مسؤولية المالك، وعليه إصلاحها أثناء مدة الإجارة، وإن لم يفعل فللمستأجر الخيار.
أما إن كان الخطأ قد وقع فعلًا من المستأجر، كتدخله في وضع الدار مما تسبب في خرابها، فعليه إصلاح ذلك، وعليه كذلك تبعة ما يقع بفعل انتفاعه، كامتلاء البالوعة، وإصلاح ما انسد من المجاري بسبب انتفاعه، ولا يُسأل عن الخلل اليسير الناتج من الانتفاع العادي مما هو معروف ومعتاد في هذه الأحوال.
وخلاصة المسألة: أن طلب المؤجر مبلغًا إضافيًّا لمبلغ الإيجار بحجة صيانة العقار شرط فاسد؛ لأنه يقوم على افتراض قد يقع، وقد لا يقع، واستحلاله لهذا المبلغ يعتبر من أكل المال بالباطل المحرم شرعًا، وعلى المؤجر أن ينتظر انتهاء مدة عقده مع المستأجر؛ ليرى وضع العقار، فإن كان قد حدث فيه خطأ أو خلل من المستأجر (مما يلزمه بفعل انتفاعه)، فيلزمه إصلاحه، وإلا فلا.
والله أعلم.
([1]) بدائع الصنائع، ج4 ص208، والمقصود بالتطيين: وضع الطين على السطوح؛ لمنع نزول المطر منه، وانظر-أيضًا-: حاشية رد المحتار، ج6 ص79-80، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار، ج4 ص43.
([2]) انظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج1 ص524.
([3]) منح الجليل شرح مختصر خليل، ج8 ص31-32.
([4]) منح الجليل شرح على مختصر خليل، ج8 ص43، وانظر-أيضًا-: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب، ج5 ص444.
([5]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج5 ص297-300، وانظر: المجموع شرح المهذب، ج15 ص102 – 103، وقليوبي وعميرة، ج3 ص78، وفتح الوهاب، ج1 ص249-250، ومغني المحتاج، ج2 ص346 -347.
([6]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج6 ص31-33، وانظر-أيضًا-: كشاف القناع عن متن الإقناع، ج4 ص19-22، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج2 ص370-371.