والجواب عن هذا يتطلب أولًا: إيضاح ما يلتبس حول ما إذا كان القرآن والسنة قد تطرقا لهذا الحكم أو غيره بعينه، ثم يتطلب ثانيًا ما ورد من أحكام بشأن الميت.
إن كتاب الله هو المصدر الأول لشريعة الإسلام، ومن أحكامه ما هو كلي، ومنها ما هو مفصل، فما كان كليًّا فإن السنة تفصله، وتبينه، وما كان مفصلًا كان في ذاته كافيًا.
والقرآن في نظر المسلم كتاب متكامل، وشامل لكل ما يعرض له في حياته، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وليس من عقيدة المسلم أن يقول بأنه سيفعل ما يشاء طالما أنه لم يجد في القرآن أو السنة حكمًا يخص حادثة أو مسألة بعينها؛ لأن أحكام القرآن -كما قلنا- كلية لا جزئية، وعامة لا خاصة، وهذه الأحكام في كليتها وعموميتها إطار شامل لكل نازلة أو حادثة تحدث، فمن ذلك مثلا: أن الله حرم قتل النفس إلا بالحق، وفي ذلك قال-تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33]، وقد بينت السنة كثيرًا من صور وصفات القتل الذي يتم بغير حق، وسيظل هذا الحكم مرجعًا لكل الصور التي يتم بها هذا القتل، سواءٌ كانت هذه الصور معروفة في العصور السابقة أم في العصور اللاحقة.
ومن ذلك -أيضًا-: أن الله أوضح في كتابه الكريم تكريمه للإنسان، وفصل بعضًا من هذه الكرامة بما سخره له من وسائل التنقل في البر والبحر، وضمان رزقه في الأرض، وتفضيله على كثير من مخلوقاته، فقال-تعالى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} [الإسراء: 70]، ثم بين أن الأكرم عنده من يلتزم بتقواه، فقال-تعالى-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وكرامة الإنسان لم تبين كلها بالتفصيل في القرآن، بل جاءت حكمًا كليًّا ينبني عليه عدد من صور الكرامة، فالرحمة بالإنسان كرامة له، قال-تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، والامتناع عن التعدي عليه كرامة له، قال-تعالى-: {وَلَا تَعْتَدُواْ إنَّ اللّهَ لَا يُحبُّ الْمُعْتَدين} [البقرة: 190]، وعدم إيذائه كرامة له، قال-تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].
وكما كرم الله الإنسان حيًّا فقد كرمه ميتًا، ومن هذه الكرامة: مواراة سوأته، وستره في الأرض التي خلقه الله منها في قوله -تعالى-: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].
وقد قص الله -تعالى- قصة الفرعين الأولين من الأصل البشري حين قتل أحدهما أخاه، ثم أعيته الحيلة عما يصنع به بعد قتله، ولما عرف الله ضعف حيلته، وما أوجبه من التكريم للمقتول، بعث له طائر الغراب؛ ليريه كيف يدفن أخاه في الأرض، ويستره تكريمًا له؟، قال-تعالى-: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين . فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين} [المائدة: 30-31]، وقد تعلم القاتل من الغراب ما فعله، فدفن أخاه.
فبهذا أصبح دفن الميت في الأرض عملًا من أعمال الفطرة، وحكمًا كليًّا نص الله عليه في كتابه، ودل على كرامته للإنسان، ثم بينت السنة النبوية هذه الكرامة في عدة أحاديث، منها: ما روته عائشة -رضي الله عنها-أن رسول الله -ﷺ-قال: (إن كسر عظم الميت مثل كسر عظمه حيًّا)([1])، وقال الشوكاني في التعليق على هذا الحديث: “إن تشبيه كسر عظم الميت بكسر عظم الحي إن كان في الإثم فلا شك في التحريم، وإن كان في التألم، فكما يحرم تأليم الحي يحرم تأليم الميت”([2]).
وقال الباجي من فقهاء المالكية: “يريد أن له من الحرمة في حال موته مثل ما له منها حال حياته، وأن كسر عظامه في حال موته يحرم كما يحرم كسرها حال حياته”([3]).
وقال الطيبي: “إن ما ورد في الحديث إشارة إلى أنه لا يهان ميتًا كما لا يهان حيًّا”([4])، وقال ابن الملك: “وإلى أن الميت يتألم”([5])، وقال ابن حجر: ” من لوازمه أنه يستلذ بما يستلذ به الحي”([6]).
ومن طريق آخر رُوي عن جابر -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله -ﷺ- حتى إذا جئنا القبر إذا هو لم يفرغ، فجلس النبي-ﷺ-على شفير القبر، وجلسنا معه، فأخرج الحفار عظمًا ساقًا أو عضدًا، فذهب ليكسرها، فقال النبي-ﷺ-: (لا تكسرها، إن كسرك إياه ميتًا ككسرك إياه حيًّا، ولكن دسه بجانب القبر)([7]).
وقد تعرض الفقهاء لمسألة إحراق جثمان الميت، وما إذا كان يلزم تنفيذ وصيه من أوصى بحرق جثمانه.
ففي المذهب الحنبلي: يحرم قطع شيء من أطراف الميت، وإتلاف ذاته، وإحراقه؛ لحديث (كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)، ولبقاء حرمته، ولو أوصى به، أي: بما ذكر من القطع والإتلاف والإحراق فلا نتبع وصيته؛ لحق الله -تعالى-، ولولي الميت أن يحامي عنه، أي: يدفع عنه من أراد قطع طرفه ونحوه([8]).
وفي المذهب الحنفي: لا يقتصر النهي عن إيذاء الميت على المسلم فحسب، بل يمتد إلى الذمي، قال في الدر: “ولا تكسر عظام اليهود إذا وجدت في قبورهم؛ لأن الذمي لما حرم إيذاؤه في حياته لذمته يجب صيانته عن الكسر بعد موته”([9]).
ومن هذا يتضح أن حرق جثمان الميت محرم للأسباب الآتية:
أولًا: أن الله -سبحانه وتعالى- قص علينا قصة الفرعين الأولين من آدم، عندما قتل أحدهما أخاه، وتوجيه الله للقاتل بمواراة سوأة أخيه في الأرض، وفي هذا القصص حكم يقضي بأن من الفطرة دفن الميت في الأرض؛ لكونه قد خلق منها، وعاش فيها، وسيبعث منها، وفي هذا القصص -أيضًا-دلالة على أن الله كرم الميت بمواراته في الأرض، ولو كان هناك طريقة أخرى يريدها ويحبها للميت غير المواراة في الأرض لوجه بها القاتل بعد أن قتل أخاه.
ثانيًا: لقد دلت الأحاديث عن رسول الله -ﷺ- أن حرمة الميت كحرمة الحي، وطالما أنه يحرم حرق الحي فإنه يحرم بالتالي حرق جثمان الميت؛ وذلك لتساويهما في الحرمة كما دلت على ذلك الأحاديث النبوية.
ثالثًا: سنة رسول الله -ﷺ- الفعلية في دفن موتى المسلمين في وقائع كثيرة لا تحصى ولا تعد، وإجماع الأمة على ذلك على مدى القرون، كل هذا يدل دلالة قاطعة على وجوب دفن الميت من المسلمين وعدم حرقه.
رابعًا: أن الديانات السماوية غير الإسلام لم تبح-كما نعلم-حرق جثمان الأموات، بل إن أتباع هذه الديانات يحترمون موتاهم، ويضعون قبورهم في أفضل المواقع في المدن.
خامسًا: أن من العقل والمنطق والمألوف للإنسان عبر تاريخه أن يرى ميته وقد دفنه وستره في الأرض، واعتاد على زيارته، وليس من المألوف له أن يحرق جثمانه، ويذريه في الهواء، أو يضعه رمادًا في قارورة صغيرة.
وخلاصة المسألة: أن حرق جثمان الميت حرام إلى يوم القيامة؛ بدلالة القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن أوصى بذلك فقد ارتكب محرمًا، وظلم نفسه؛ لأن الوصية لا تجوز إلا إذا كانت موافقة لأحكام الشرع، وعلى الموصى ألا ينفذ وصيةً حرامًا، وإلا أصبح مع الموصي في الإثم سواءً.
والله أعلم
([1]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الجنائز، باب في النهي عن كسر عظام الميت، برقم (1616، 1617)، وأخرجه الإمام أحمد في المسند ج6 ص 58، صححه شعيب الأرنؤوط في تخريج سنن الدارقطني، (٣٤١٣).
([2]) نيل الأوطار، ج4 ص56-58، وانظر-أيضًا-: سبل السلام، ج2 ص571.
([3]) أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك، ج4 ص288-289.
([4]) أوجز المسالك ج4 ص 288 – 289.
([5]) أوجز المسالك ج4 ص 288 – 289.
([6]) أوجز المسالك ج4 ص 288 – 289.
([7]) انظر بذل المجهود في حل أبي داود ، ج14 ص178، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1320).
([8]) انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج2 ص142-143، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني، ج1 ص914، والمغني والشرح الكبير، ج2 ص323 -324.