ومفاد هذه المسألة: ما ذكره السائل من أن له دارًا ملاصقة لأرض يملكها شخص آخر، وقد عرف أنه سيبيعها، ويخشى أن يسبب له هذا البيع ضررًا وأذىً؛ لأن الأرض المذكورة تقع في مكان يعلو داره، ويسأل عما إذا كان من حقه أن يشفع على المشتري؛ دفعًا للضرر المحتمل؟.

حكم الشفعة في الجوار

والجواب عن هذا: أن الفقهاء قد اختلفوا في ذلك على فريقين:

الفريق الأول: يرى إثبات حق الشفعة في الجوار.

والفريق الآخر: لا يراه.

وقد استدل المثبتون بما روي عن جابر قال: اشتريت أرضًا إلى جنب أرض رجل، فقال: أنا أحق بها، فاختصمنا إلى رسول الله -ﷺ-، فقلت: يا رسول الله! ليس له في أرضي طريق ولا حقٌّ، فقال-عليه السلام-: (هو أحق بها)، فقضى له بالجوار([1]).

وما روي عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله -ﷺ-: (جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض)([2]).

وما روي -أيضًا- عن الشريد بن سويد عن أبيه، قلت: يا رسول الله! أرضي ليس فيها لأحد قسم ولا شرك إلا الجوار، قال: (الجار أحق بسقبه ما كان)([3]).

واستدلوا بما ورد -أيضًا- من أخبار عن بعض الصحابة والتابعين تدل على جواز الشفعة في الجوار، ومن ذلك: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب إلى شريح بأن يقضي في الشفعة للجار([4])، وما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: “الخليط أحق من الجار، والجار أحق من غيره”([5]).

وممن قال بذلك: الثوري، وابن أبي ليلى، والإمام أبو حنيفة.

ففي المذهب الحنفي: أن الشفعة تجب لسببين: السبب الأول: الشركة، والسبب الثاني: الجوار، واستدل أصحاب المذهب ببعض هذه الآثار، وبالعلة الشرعية المتلازمة بين مسألة الشركة ومسألة الجوار، فسبب الشفعة في مسألة الشركة مبني على دفع أذى الدخيل، وضرره وهذا السبب نفسه متوقع في مسألة الجوار، فورود الشرع هناك يكون ورودا هنا دلالة([6]).

الفريق الثاني: يرى نفي الشفعة في الجوار، وممن قال بذلك: الأئمة: مالك والشافعي وأحمد، وأهل الظاهر، وقد استدلوا على ذلك بما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب أن رسول الله -ﷺ- قضى بالشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق بينهم فلا شفعة([7])، وبما روي عن جابر أن رسول الله -ﷺ- قضى بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة([8]).

وعلى هذا فإنه إذا كانت الشفعة غير واجبة للشريك المقاسم فأحرى ألا تكون واجبة للجار، إضافة إلى أن الأصول تقتضي ألا يخرج ملك أحد من يده إلا برضاه حتى يدل الدليل على تخصيصه([9])، وعند هؤلاء أن ما ورد من القول بإثبات الشفعة في الجوار لم يَرْقَ إلى درجة القطع والتخصيص.

فالإمام مالك: يرى أن الشركاء إذا اقتسموا دارًا بينهم، وعرف كل واحد منهم بيوته ومقاصيره، فلا شفعة بينهم، وإن لم يقسموا الساحة، ومثل ذلك في نفي الشفعة: بيع الأعلى أو الأسفل، أو العكس من المواد ما دام كلٌّ من الشريكين عرف حقه ما هو؟، وحيث هو لا.

وبعدما ساق الإمام الشافعي ما رواه ابن المسيب عن رسول الله -ﷺ-بأن الشفعة فيما لم يقسم قال: “فبهذا نأخذ، ونقول: لا شفعة فيما قسم؛ اتباعًا لسنة رسول الله -ﷺ-“، ثم قال: “وعلمنا أن الدار إذا كانت مشاعة بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه منها، فليس يملك أحدهما شيئًا وإن قلَّ إلا ولصاحبه منه، فإذا دخل المشتري على الشريك للبائع هذا الرجل كان الشريك أحق به منه بالثمن الذي ابتاع به المشتري، فإذا قسم الشريكان، فباع أحدهما نصيبه باع نصيبًا لا حظ في شيء منه لجاره، وإن كان طريقهما واحدة؛ لأن الطريق غير البيع”.

وقد حاج -رحمه الله – بأن المقصود بالجار ذلك الذي لم يقاسم، وأن قول النبي -ﷺ-: (الجار أحق بسقبه) لا يحتمل إلا معنيين:

المعنى الأول: أن يكون قد أجاب عن مسألة لم يخل أكثرها من أن يكون أراد أن الشفعة لكل جار، أو أراد بعض الجيران دون بعض، فإن كان هذا المعنى فلا يجوز أن يدل على أن قوله -عليه الصلاة والسلام- خرج عامًّا أراد به خاصًّا إلا بالدلالة عنه، أو إجماع من أهل العلم، وقد ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (لا شفعة فيما قسم)، فدل على أن الشفعة للجار الذي لم يقاسم دون الجار المقاسم.

والمعنى الثاني: أن تكون الشفعة لكل من لزمه اسم جوار، وهذا لا يقول به أحد، وهذا يدل على أنه -عليه الصلاة والسلام- أراد أن الشفعة لبعض الجيران دون بعض، وأنها لا تكون إلا لجار لم يقاسم([10])، وبهذا يفسر -رحمه الله – معنى الجوار الذي ورد في الحديث المتفق عليه، وهو قول رسول الله -ﷺ-: (الجار أحق بسقبه)([11])، بأنه جوار الشريك، وأن إطلاقه على الجوار بدون هذا التخصيص إطلاق غير صحيح؛ لأنه يعني حق الشفعة لأربعين دارًا، وهو قول غير مقبول.

وفي مذهب الإمام أحمد: أن الشفعة لا تجب إلا للشريك المقاسم؛ استدلالًا بما روي عن رسول الله -ﷺ- أنه قال: (الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة)، وردوا على الاستدلال بحديث (الجار أحق بسقبه) بأنه يحتمل أن المقصود به الإحسان إليه، وصلته، وعيادته، ونحو ذلك، وبهذا لا يعتبر صريحًا في جواز الشفعة في الجوار([12])، وبمثل ذلك قال الإمام ابن حزم، وأفاض فيما سماه فساد حجة القائلين بدلالة الحديث على حق الجوار في الشفعة([13]).

ومما سبق يتبين أن القائلين بحق الشفعة في الجوار يستدلون بالحديث المتفق عليه: )الجار أحق بسقبه)، وأن القائلين بنفي الشفعة في الجوار يؤولون الحديث على أنه أمر للجار بالإحسان إلى جاره، ويستدلون على نفي الشفعة بحديث: (إنما الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة)، فدل هذا الحديث في شقه الأول على أن الشفعة في غير المقسوم، ونفيها في المقسوم، ودل في شقه الثاني على نفي الشفعة بعد تحديد الحدود، وتصريف الطرق.

ومن المتفق عليه بين فريقي الفقهاء أن السبب الشرعي في إثبات الشفعة هو دفع الضرر المحتمل، ورغم أنها تعني انتزاع حق من يد صاحبه قسرًا عليه، إلا أن دفع الضرر أولى من هذا الحق، ويسلم النافون للشفعة في الجوار باحتمال الضرر فيه، غير أنهم يرون دفعه باستعداء السلطة على من يقع منه.

وإذا قلنا بهذا فقد يكون الأقرب للصواب منع الأذى قبل وقوعه، ففي القضية محل السؤال أرض ملاصقة للدار، وتعلو عليه، وبناؤها من قبل مشترٍ مجهول السلوك مظنة الأذى، وفي استعداء السلطة عليه في حال سوء سلوكه أذى مضاعف للسلطة نفسها، وللجار المتضرر؛ لهذا فإن من المصلحة كف الأذى قبل وقوعه.

وما ينطبق على الدار ينطبق على كل ما يماثلها، واحتمالات الضرر في الجوار أكثر من أن تحصر، ومن ذلك مثلًا: ما يقع في مناطق الزراعة عندما يغور الماء في مكان ما، فيلجأ صاحبه إلى الحفر بقرب مصدر ماء جاره، فيؤذيه، ومن ذلك: ما يسببه المشترون الجدد لجيرانهم من أذى وأضرار متعددة، فيضطر هؤلاء إلى الشكاوى، وإقامة الدعاوى، ومن ثم تستمر المنازعات أمدًا طويلًا يتحول فيه الجوار إلى عداء وبغضاء، ربما كان من الممكن تلافيها بإثبات حق الشفعة في الجوار.

وعلى كل فإن المسألة تبقى اجتهادًا لمن يحكم في مثل هذه القضايا.

والله أعلم.

([1]) المحلى بالآثار، ج8 ص32.

([2]) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الشفعة، برقم (3517)، سنن أبي داود، ج3 ص286.

([3]) أخرجه البخاري في كتاب الشفعة، باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، برقم (2258)، ينظر: فتح الباري ج4 ص 510، ونيل الأوطار، ج6 ص84.

([4]) مصنف ابن أبي شيبة، ج7 ص166.

([5]) مصنف عبد الرزاق، ج8 ص79، وفي رواية: “الشَّريكُ أحقُّ منَ الخليطِ، والخليطُ أحقُّ منَ الشَّفيعِ” قال ابن حجر العسقلاني في الدراية تخريج أحاديث الهداية، (٢/٢٠٣): لم أجده.

([6]) بدائع الصنائع للكاساني، ج5 ص4-5، وانظر: رد المحتار، ج6 ص217.

([7]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، باب ما تقع فيه الشفعة، برقم (1394)، ص503.

([8]) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الشفعة، برقم (3514)، سنن أبي داود، ج3 ص285، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢٠٤٢).

([9]) انظر: بداية المجتهد، لابن رشد، ج2 ص257.

([10]) الأم للإمام الشافعي، ج4 ص5-6، وانظر: نهاية المحتاج للرملي، ج5 ص198-199.

([11]) أخرجه البخاري، (٢٢٥٨).

([12]) المغني لابن قدامة، ج5 ص461-463، وكشاف القناع عن متن الإقناع، ج4 ص134، والأحاديث سبق تخريجها.

([13])  انظر: المحلى بالآثار للإمام ابن حزم، ج1 ص28-38.