والجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: وجه عموم: وهـو أن الشريعة الإسلامية شريعة أخلاق، وشريعة محبة، وشريعة قيم ومثل، فكل ما يناقض أو ينافي هذه القواعد فليس من الشريعة في شيء، ومن هذه القواعد: تحريم التعدي على الإنسان، ليس فيما يؤذيه في جسده فحسب، بل تحريم كل ما يسيء إليه في سمعته أو كرامته أو أسرته، ولهذا نهى الله عن الجهر بالسوء من القول، واستثنى من ذلك حالـة الظلم فقط، فقال -تعالى-: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء:148]، ونهى عـن الظن بالإنسان، أو التجسس عليه، أو اغتيابه، وشبه ذلك بأكل لحم الميت، فقال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
وقد أكد رسول الله -ﷺ- حرمة العرض مع حرمة الدم والمال في خطبته الشهيرة – خطبة الوداع- التي حدد فيها الكثير من أحكام الشريعة، فقال: «إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»([1]).
وقال: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه»([2])، وقد روي من حديث البراء بن عازب قال: خطبَنا رسول الله -ﷺ- حتى أسمع العواتق في بيوتها، أو قال: في خدورها، فقال: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته»([3]).
ولما سئل رسول الله -ﷺ- عن الغيبة قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقـول؟، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «إن كان فيه مـا تـقـول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته»([4]).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وجامعها تحريم التعدي على المسلم بما يؤذيه من فعل أو قول، سواء كان ذلك بصريح العبارة، أم كان بالتعريض والكناية.
الوجه الثاني للجواب: وجه خصوص: وهو تحريم القذف، واعتباره حدًّا من حدود الله، وقد عظم الله شـأنه، فقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [النور:4]، وفي هذه الآية أحكام ثلاثة تطبق على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة قذفه:
أولها: جلـده ثمانين جلدة: وهذا حد قاطع، لا مجال فيه للاجتهاد.
وثانيها: رد شهادته إلى الأبد.
وثالثها: فسقه وعدم عدالته.
وقد اختلف الفـقـهـاء في قبول شهادته إذا تـاب، فـيـرى الإمام مالك والشافعي قبولها، ويرى الإمام أبو حنيفة عدم قبولها أبداً.
والقذف الذي يطبق عليه الحد هو أن يرمي المقذوف بالزنا، والثاني أن ينفيه عن نسبه([5])، ولن نتطرق لأحكام القذف بالتفصيل، بل نجتزئ منها ما يتعلق بالكناية، فالحد في القذف الصريح متفق عليه بين الفقهاء، إنما الاختلاف في التعريض، وهو: “ما يدل عليه بقرينة بينة”، كقوله: «أما أنا فلست بزانٍ»، أو قوله: “زنت عينك أو يدك”، أو قال في مشـاتمته لرجل آخر: «إنك لعفيف الفرج»؛ فهذه الألفاظ تعتبر تعريضا بالزنا، ودلالة التعريض أقوى من دلالة الكناية، أو قوله للعربي: «ما أنت بحرٍّ». أو قال: «ما أعرف أباك»، وهو يعرفه، وهذه الألفاظ عند الإمام مالك وأصحابه تعتبر قذفاً موجبـاً للحد، ويرى بعضهم أنه إذا كان في المشاتمة يقصد بقوله: “إنك لعفيف” العفة في المكسب والمطعم فيحلف، ولا يحد، وينكل.
ويرى بعضهم الآخر أن يكون ذلك في مشاتمة([6])، ويستدل الإمام مالك وأصحابه على القذف في الكناية بقصة حدثت في زمن عمر -رضي الله عنه-، فشـاور فيها الصحابة، فاختلفوا فيها، فرأى عـمـر فيهـا الحد، كما يستدل الإمام مالك وأصحابه بأن الكناية قد تقوم بعرف العادة والاستعمال مقام النص الصريح([7]).
ويرى الإمام أبو حنيفة أنه إن كان القذف بالكناية فلا يجب الحد، بل التعزير؛ لأن الكناية محتملة، والحد لا يجب مع الشبهة، فمنع الاحتمال أولى، ويرى مثل ذلك الإمام الشافعي([8]).
وظاهـر المذهب الحنبلـي عدم الحد في التعريض، فمن قال لآخر: «زنت يداك ورجلاك» لا يجب عليه الحد؛ لأن زنا هذه الأعضاء لا يوجب الحد؛ لقوله -ﷺ-: «فالعينان زناهما النظر»([9])،([10]).
واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في التعريض بالقذف، مثل من يقول لخصمه: «ما أنت بزان»، فروى عنه حنبل أنْ لا حدَّ في ذلك، وقال بهذا عدد من التابعين، واسـتـدلـوا بما روي أن رجلاً قال للنبي -ﷺ-: إن أمراتي ولدت غلاماً أسودَ. يعـرض بنفيه، فلم يلزمه بذلك حد([11]).
والحاصل أن المهـم في ذلك عرف الناس في استعمال الألفاظ ودلالاتها وتأثيرها، فإذا كان التعريض بالقول يفهم منه في عرف المكان أنه قذفٌ يمس الإنسان في عرضه ونسبه فذلك مثل القذف الصريح؛ لأن الإشارة قد تكون أقوى من العبارة، والعكس بالعكس، ولكن عدم اعتبار التعريض قذفاً لا يعني نفي المسؤولية عن صاحبه فيما قد يستحقه من تعزير.
والله أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب «ليبلغ العلم الشـاهد الغائب»، برقم (١٠٥)، فتح الباري، ج1 ص ٢٤٠.
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، صحيح مسلم بشرح النووي، ج ١٦ص۱۲۱.
([3]) أورده السيوطي في الفتح الكبير، ج۲ ص ٤٠٤، وأخرج الإمام أحمد بمثله في المسند بلفظ: «لا تؤذوا عباد الله، ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته، حتى يفضحه في جوف بيته». المسند ، ج5 ص ۲۷۹، وأخرجه الترمذي في سننه، (٢٠٣٢)، وقال: حسن غريب.
([4]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج١٦ ص١٤٢.
([5]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج۲ ص ٤٤١.
([6]) انظر في هذا: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب، ج6 ص۳۰۱-۳۰۳، وانظر-أيضا-: منح الجليل للشيخ عليش، ج۹ ص۲۷۹-٢٨٥.
([7]) بداية المجتهد، ج۲ ص ٤٤١.
([8]) انظر: بدائع الصنائع ج7 ص٤٢، والأم للإمام الشافعي ج7 ص ١٥٣-١٥٤، ونهاية المحتاج ج7 ص ٤٣٥-٤٣٧، والوجيز في فقه الإمام الشافعي لأبي حامد الغزالي،ج۲ ص ٨٤-٨٥.
([9]) أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب “قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره”، برقم (۲۱)، صحیح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج۹ ص۳۱.