ومفاد هذه المسألة ما ذكره السائل أن مرض ‏«‏نقص المناعة‏»‏‏ من الأمراض التي لا يعرف لها دواء في الوقت الحاضر، وأن بعض المصابين بهذا المرض -كما يذكر السائل- يتعمد نقله إلى غيره، إما بطريق العمد أو الإخفاء، كما قد يفعل الزوج المصاب به حين يخفيه عن زوجته، فيعاشرها، ومن ثم ينتقل المرض إليها، وهي لا تعلم. ويسأل السائل عن الحكم في ذلك؟.

حكم من نقل مرضا قاتلا إلى آخر بطريق العمد أو الخطأ

والجواب عن هذا من وجهين:

الوجه الأول: النقل العمد للمرض القاتل، ويتصور هذا في حالة اغتصاب المريض امرأةً، وفي كل حالة أو وضع ينقل فيه هو أو غيره هذا الداء عمدا إلى آخر. ولكي يعتبر النقل عمدا ينبغي أن تتوافر فيه ثلاثة شروط:

أولها: أن يكون الفاعل قد قدر على إيقاع فعله، وهو النقل للمرض في أي صورة من صور النقل.

ثانيها: أن يكون المنقول إليه المرض قد وقع تحت تأثير الخوف والرهبة.

 

ثالثها: أن تتحقق آثار النقل، وهي في هذه الحالة الوفاة.

والسؤال هو ما إذا كان ينطبق على هذا الفعل حكم القتل العمد أم لا؟.

لقد عرف الفقهاء القتل العمد تعريفات متعددة، وجماعها: أن تكون الوسيلة المستعملة في القتل تقطع وتنفذ إلى البدن، أو تؤدي في الغالب إذا استعملت إلى إزهاق النفس([1]). ومن أنواع هذه الوسيلة: دس السم في طعام أو شراب، أو أي مادة يَقتل مثلُها في الغالب، وقد ثبت أن امرأة دست السم لرسول الله -ﷺ- في قطعة من لحم، فأكل منها لقمة، ثم لفظها، وأكل منها بشر بن البراء، فمات، فقيل: إن رسول الله عفا عنها في حقه، وقيل: إنه أمر بقتلها لما مات بشر بن البراء، وأقرت بفعلها([2]).

ويشترط في القاتل العمد العقل والبلوغ؛ لقول رسول الله -ﷺ-: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يُدرك، وعن المجنون حتى يفيق»([3]).

كما يشترط فيه توافر الإرادة، بحيث يقدم على فعله مختارا غير مكره عليه.

وللفقهاء في ذلك أقوال، فيري الأئمة: مالك([4]) والشافعي([5]) والثوري وآخرون ترتب القتل على مباشره، ويعاقب الآمر به فقط، فإن كان الآخر ذا قوة وسلطان على من باشر القتل فيرى الإمام أبو حنيفة([6]) قتل الآمر دون المباشر، وفي أحد قولي الإمام الشافعي: يقتل المباشر دون الآمر([7]). وفي مذهب الإمام أحمد: وجوب القصاص على المُكرِهِ والمُكرَهِ([8]). ويرى الإمام مالك قتل الآمر والمباشر معا([9]).

وينبني على هذا أن المصاب بمرض ‏«‏نقص المناعة‏»‏‏ إذا تعمد نقل مرضه إلى آخر، وكان عاقلا بالغا مختارًا، وأدى فعله إلى وفاة المنقول إليه؛ فإن هذا الفعل يعتبر قتلَ عمد موجبًا للقصاص.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الناقل غريبا عن المنقول إليه أو غير غريب كما في حال الزوج، فلو تعمد هذا نقل المرض إلى زوجته عن طريق المعاشرة بالقسر، أو عن طريق الإخفاء، وقصد قتلها به؛ فحكمه في ذلك حكم القاتل العمد.

الوجه الثاني: نقل المرض عن طريق الخطأ، ويتصور هذا في حال انتقال المرض من الزوج إلى زوجته عن طريق المعاشرة، وهو لا يعرف إصابته به، خاصة عندما يكون في المرحلة أو المراحل الأولى من هذه الإصابة، كما يتصور في كل حالة أو وضع ينتقل فيه هذا المرض من شخص إلى آخر عن طريق الخطأ، كما في حالات نقل الدم الملوث.

وينطبق على هذا حكم القتل الخطأ، وتجب فيه الدية والكفارة إذا حدثت الوفاة؛ لقول الله -تعالى-: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء:92]. ويحق للزوجة فسخ النكاح إذا تأكد لديها إصابة زوجها بهذا المرض؛ لأنه إذا كان لها الحق في الفسخ إذا كان الزوج مصابا بالجنون أو الجذام ونحو ذلك من الأمراض المعدية([10])، فمن باب أولى أن يكون لها الخيار في فسخ النكاح في حالة المرض المعدي والقاتل المصاب به زوجها. والله أعلم.

 

([1]) المغني والشرح الكبير، ج9 ص321-323، وانظر -أيضا-: الأم، ج6 ص5، وبدائع الصنائع، ج7 ص233.

([2]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج7 ص568-569، قال الذهبي في المهذب في اختصار السنن، (٦/٣١٣٤): فيه يحيى واه.

([3]) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون، برقم (11)، فتح الباري، ج9 ص300، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، برقم (2041)، سنن ابن ماجة، ج1 ص658.

([4]) منح الجليل شرح على مختصر خليل، ج9 ص23.

([5]) الأم للشافعي، ج6 ص42.

([6])  بدائع الصنائع، ج7 ص179.

([7]) الأم للشافعي، ج6 ص41.

([8]) المغني والشرح الكبير، ج9 ص330.

([9])  منح الجليل شرح على مختصر خليل، ج9 ص23.

([10])  المغني والشرح الكبير، ج7 ص579.