ومفاد هذه المسألة: ما ذكره السائل أن لديه عاملًا بالأجر الشهري، وخشيةً من هروبه أو تخلفه عن العمل فقد امتنع أولًا عن دفع أجره إلى أن تنتهي مدة العقد -وقدرها سنتان-، ثم يسلمه له، ولما تظلم العامل من هذا الإجراء، وما يسببه له من معاناة، خاصة أن أسرته تعيش على أجره، رأى -أي رب العمل- اقتطاع جزء من راتب العامل إلى أن تنتهي مدة العقد، ويقول: إنه لم يجد في ذلك من حرج؛ لأنه متيقن أنه سيدفع الأجر، ولن يُنقِصَ العامل من أجره شيئًا، ولكنه قد اضطر لما فعل خشية إخلال العامل بالعقد؛ مما يسبب له بعض الخسارة، ويسأل عما إذا كان عليه في ذلك من حرج.

حكم حجز أجر العامل أو جزء منه خشية إخلاله بالعقد

والجواب عن هذا من وجهين:

الوجه الأول: أن من المعتاد وجود علاقة واضحة بين رب العمل والعامل، وهذه العلاقة تحدد واجبات كل منهما والتزامه نحو صاحبه، وأهم أسس هذه العلاقة: التزام العامل بأداء العمل الموكول إليه، والتزام رب العمل بدفع أجر العامل، ولكون هذا هو الطرف الأضعف في العلاقة فقد أكدت قواعد الشريعة على حمايته، وفي ذلك قال رسول الله -ﷺ-: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا، فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا، فاستوفى منه، ولم يعطه أجره)([1])، ولشناعة هذه الأفعال، وعظم مسؤوليتها فقد أوضح رسول الله -ﷺ- أنه خصم لمرتكبها.

فالغادر قد خان عهده، فخرج بذلك على إجماع الأمة، وبائع الحر استغل قوته، وضعف أخيه، فتسلط عليه، واستعبده، وصاحب العمل امتنع عن إعطاء أجيره أجره بعد أن استوفى منه جهده، فصار بمثابة المستعبد لغيره، فاستحق خصومة نبي الله، وأَعْظِمْ بها من خصومة.

ويتعلق بوفاء الأجر مسألة تسميته، وهل هي لازمة ابتداءً أو تترك للعرف، وما يجري عليه العمل بين الناس؟.

وفي ذلك يرى الإمام الشافعي وأبو يوسف ومحمد صاحبا الإمام أبي حنيفة وجوب التسمية؛ استدلالًا بما رواه أبو سعيد أن النبي -ﷺ- نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره([2])، وعلى خلاف ذلك يرى الإمامان: مالك وأبو حنيفة عدم لزوم تسمية الأجر، وأن يترك ذلك للعرف واستحسان المسلمين([3]).

ولعل الأصح تسمية الأجر وتعيينه ابتداء؛ حتى يعرف كل ذي حق حقه؛ منعًا لاحتمالات الشقاق والنزاع بين الطرفين.

الوجه الثاني: ميعاد الأجر، ومتى يستحقه العامل؟.

ويتعلق بهذا ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: أن يكون هناك عقد ينص على شرط تعجيل الأجر قبل الوفاء بالعمل، أو تكون العادة تقضي بتعجيله، ويترتب على هذا الوفاءُ به مقدمًا، إن كان “مياومة”، فيدفع عند بدء اليوم، وإن كان “مشاهرة” فيدفع عند بدء الشهر، وإن كان بالسنة فيدفع عند بدء السنة، وتعجيل الأجر في هذه الحال بموجب الشرط أمر لازم؛ لأن المسلمين على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا كما قال ذلك رسول الله -ﷺ-([4])، وتعجيله بموجب العادة أمر لازم كذلك؛ لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا([5]).

المسألة الثانية: أن ينص العقد على تأجيل الأجر بعد أداء العمل في وقته المحدود، ويترتب على هذا أن يوفي رب العمل للعامل أجره “بعد” نهاية المدة، سواءٌ كانت يومًا أم شهرًا أم سنةً، وغالب العرف في العصر الحاضر يجري على هذا العمل، خاصة في العمل بالمياومة والمشاهرة.

المسألة الثالثة: ألا يتضمن العقد نصًّا يحدد ميعاد الأجر، ففي هذا الحال يثبت الحكم في المنفعتين في وقت واحد، أي: أنه يحق للأجير أجره وقت ثبوته أداء العمل؛ استدلالًا بقول الله  -تعالى- في أجر الإرضاع: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، واستدلالًا بقول رسول الله -ﷺ-: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)([6]).

وينبني على ما سبق أن العامل يستحق أجره فور أدائه العمل، ما لم يكن هناك عقد ينص على تأجيله؛ ولهذا لا يجوز لرب العمل في هذه المسألة حجز أجر العامل لديه أو جزء منه ما دام العامل يفي بعمله؛ لأن هذا الحجز من باب الظلم الذي حرمه الله على نفسه، وجعله محرمًا بين عباده كما ورد في الحديث القدسي([7]).

والله أعلم

([1]) أخرجه الإمام البخاري في كتاب البيوع، باب إثم من باع حرًّا، برقم (2227) فتح الباري، ج4 ص487.

([2]) انظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج5 ص266، وبدائع الصنائع، ج4 ص193، ونيل الأوطار، ج6 ص33، والحديث حسنه السيوطي في الجامع الصغير، (٩٣٩٣).

([3]) انظر: منح الجليل، ج7 ص433، وبدائع الصنائع ج4 ص193-194.

([4]) أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله -ﷺ-في الصلح بين الناس، برقم (1352)، سنن الترمذي، ج3 ص635.

([5]) منح الجليل، ج7 ص437.

([6]) أخرجه البيهقي في كتاب الإجارة، باب إثم من منع الأجير أجره، السنن الكبرى للبيهقي، ج6 ص121، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٩٩٥).

([7]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم. صحيح مسلم بشرح النووي، ج16 ص132.