وقبل الإجابة على السؤال تنبغي الإشارة أولًا إلى فرضية صلاة الجمعة، وفضل أدائها وجزاء من يتركها أو يتهاون فيها؛ ففرضها ثابت في كتاب الله في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون}([1])، وفي هذه الآية وجوب وتكليف للمؤمنين المخاطبين، والتكليف يقتضي الطاعة أو الجزاء. وفرضها كذلك ثابت بالسنة لما روي أن رسول الله ﷺ قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد)([2]). وفي حديث آخر قال -عليه الصلاة والسلام-: (من ترك الجمعة ثلاث من غير ضرورة طبع الله على قلبه)([3]).
وأما فضل أدائها: فقد بينه رسول الله ﷺ بقوله: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فصلى ما قُدِّر له ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته ثم يصلي معه غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام)([4]).
وقوله: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)([5]).
وأما جزاء تركها أو التهاون في أدائها فقد بيَّنه رسول الله ﷺ بقوله: (لينتهينَّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)([6])، وقوله: (من ترك ثلاث جمع تهاونًا بها طبع الله على قلبه)([7]). وقوله فيما رواه جابر قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال: (واعلموا أن الله تعالى قد افترض عليكم الجمعة، في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، من عامي هذا، إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر، استخفافًا بها، أو جحودًا لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك في أمره، ألا ولا صلاة له، ولا زكاة له، ولا حج له، ولا صوم له، ولا بِرَّ له، حتى يتوب. فمن تاب تاب الله عليه)([8]).
وفيما ذُكِرَ من قول الله تعالى، وقول رسوله ﷺ حكم واضح الدلالة على وجوب أداء صلاة الجمعة وجوبًا عينيًا، ما لم يكن للمتخلف عنها عذر شرعي يحول بينه وبين أدائها؛ وينبني على هذا وجوبها على الإخوة الطلبة الذين أشار إليهم السائل.
أما بالنسبة لمسألة العدد، وهل هو محدد، وما هو المجزيء فيه؟ فمسألة اتفق الفقهاء على أن من شرط الجمعة الجماعةُ؛ ولكنهم اختلفوا في مقدار العدد؛ فالإمام الطبري يري صحتها، بواحد مع الإمام([9])، والإمام أبو حنيفة وصاحبه أبو محمد يريان
أن أدنى العدد فيها ثلاثة سوى الإمام، ويراه أبو يوسف اثنان سوى الإمام. وقد استدلوا على ذلك بأن النبي ﷺ كان يخطب؛ فقدمت عير تحمل الطعام فانفضوا إليها وتركوا رسول الله ﷺ قائمًا وليس معه إلا اثنا عشر رجلًا، منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله تعالى عنهم- وقد أقام الجمعة بهم. كما روي أن مصعب بن عمير أقام الجمعة بالمدينة مع اثني عشر رجلًا([10])، وفي مذهب الإمام مالك يشترط لها جماعة تتقرى([11]) بهم قرية بلا حد أولًا، وإلا فتجوز باثني عشر رجلًا غير الإمام([12])، وعند الإمام الشافعي يشترط لإقامتها أربعين رجلًا منهم الإمام لخبر كعب بن مالك قال: (أول من جمع بنا في المدينة أسعد بن زرارة، قبل مقدم النبي ﷺ المدينة في نقيع الخضمات وكنا أربعين)، ولخبر ابن مسعود أنه ﷺ جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلًا، ولقول جابر: (مضت السنة أن في كل ثلاثة إمامًا، وفي كل أربعين جمعة). ولقوله ﷺ: (إذا اجتمع أربعون رجلًا عليهم الجمعة)، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (لا جمعة إلا في أربعين)([13]).
وقد رد على ذلك الأحناف بأن الثلاثة تساوي ما وراءها، في كونها جمعًا، فلا معنى لاشتراط الأربعين بخلاف الاثنين فإنه ليس بجمع. والقول بحديث أسعد بن زرارة ليس حجة؛ لأن الإقامة بالأربعين وقع اتفاقًا. وقد روي أن أسعد أقامها بسبعة عشر رجلًا ورسول الله ﷺ أقامها باثني عشر رجلًا، حين تركوا المسجد([14]).
وفي مذهب الإمام أحمد: أن للجمعة سبعة شروط ومنها: أن تكون في قرية وأن يكونوا أربعين. وهذا العدد هو المشهور في المذهب الحنبلي، وهو شرط لوجوبها، وصحتها ذكره الإمام ابن قدامة في المغني، وروي عن الإمام أحمد أنها لا تنعقد إلا بخمسين، وروي عنه أنها تنعقد بثلاثة، وهو قول الإمامين الأوزاعي وأبي ثور؛ لأنه يتناوله اسم الجمع فانعقدت به الجماعة كالأربعين، ولأن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، وهذه صيغة الجمع فيدخل فيه الثلاثة([15])، ويرى الإمام ابن حزم إذا كان واحد مع الإمام صليا الجمعة([16]). واختلاف الفقهاء في مسألة العدد يرجع إلى استدلال كل منهم بحجة وفقًا لمفهومه
لمعنى الجمع، فحين يراه الإمام مالك فيما تعمر به قرية وأدناه اثنا عشر رجلًا، يراه الإمام أبو حنيفة في ثلاثة مع الإمام؛ لأن الثلاثة جمع فيتحقق به توفر شرط الجماعة، وما قيل عن الإمام أحمد بجواز انعقادها بثلاثة رجال لا يخرج عن هذا المفهوم.
والإمام الشافعي وغيره ممن قال باشتراط الأربعين أخذوا بالأحاديث السابقة، ولكن هذا يرد عليه إقامة رسول الله ﷺ للجمعة باثني عشر رجلًا بعدما خرج الناس من الصلاة لمقابلة العير، كما يرد عليه ما ورد عن إقامتها من بعض الصحابة بأقل من عدد الأربعين، فبهذا أصبحت مسألة اشتراط العدد مسألة اجتهاد، وهو اجتهاد مرجوح لا دليل عليه ولكن هذا الاجتهاد مقيد باشتراط (الجماعة) وهو ما اتفق عليه الفقهاء.
وما دام أن مفهوم الجماعة يشمل الاثنين فأكثر، فإن صلاة الجمعة بالعدد الذي ذكره السائل صحيحة إن شاء الله.
وخلاصة المسألة: أن إقامة الطلبة المشار إليهم صلاة الجمعة بعشرة أشخاص صلاة صحيحة، وأن الواجب والتكليف المخاطبون به يقتضي منهم أداءها بهذا العدد. ولا حجة قوية للقول الذي يشترط كثرة العدد.
والله أعلم.
([2]) رواه الدارقطني في سننه، ج2 ص3، والخطيب التبريزي في المشكاة، كتاب الصلاة، باب وجوب صلاة الجمعة، برقم (138)، وضعفه الألباني، المشكاة، ج1 ص435.
([3]) أخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم (1125)، ج1 ص357. قال محمد فؤاد عبد الباقي: وفي الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات).
([4]) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت للخطبة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج6 ص146.
([5]) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، صحيح مسلم بشرح النووي، ج3 ص117-118.
([6]) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج6 ص152.
([7]) أخرجه النسائي في كتاب الجمعة، باب التشديد في التخلف عن الجمعة، ج3 ص88، مكتبة الرياض الحديثة، وأخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم (1125)، ج1ص357، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٨٥٧٠).
([8]) أخرجه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة، باب فرض الجمعة، برقم (108) ج1 ص343، وقال محمد فؤاد عبد الباقي: (في الزوائد: إسناده ضعيف، لضعف علي بن زيد بن جدعان وعبد الله بن محمد العدوي).
([11]) تتقرى: أن تعمر بهم قرية.
([12]) منح الجليل لعليش، ج1 ص420-421، والقوانين الفقهية، ص55-56.