والجواب على هذا من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: عدم جواز التداوي بالخمر وما في حكمها؛ لما ورد أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي -ﷺ- عن الخمر، فنهاه أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: «إنه ليس بدواء، ولكنه داء»، وسئل -عليه الصلاة والسلام- عن الخمر تُتَّخذ خلًّا، فقال: «لا»([1])، وروى أبو الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -ﷺ-: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواءً، فتداووا، ولا تتداوَوْا بحرام»([2]).
وهذه الأحاديث تدل على تحريم التداوي بالخمر؛ لأنها في الأصل محرمة، وما كان في أصله محرمًا كان في فروعه كذلك من باب أولى.
كما تدل هذه الأحاديث على أن الخمر في ذاتها ليست دواءً صالحًا لعلاج الأمراض، بل هي في حقيقتها داء، ولا يتردد اليوم أحد في القول بصحة هذا الإخبار النبوي؛ لأن كثيرًا من الأدواء المحسوسة والمشاهدة في المجتمعات المعاصرة ناتجة عن تعاطي الخمور على نحو صار يهدد الكثير من طاقاتها البشرية، ويُحَوِّلُ إنسانها إلى مدمن عاجز عن الحركة.
والخمر اسم جنس يشمل كل ما يضعف العقل، ويخدره، ويشل الحركة، فما كان من جنسه وفروعه من المخدرات -على اختلاف مسمياتها وأصنافها وأنواعها- يدخل في حكمه، وبالتالي يعتبر التداوي به محرمًا، ولا فرق بين أن يكون التداوي بها كاملًا أو جزئيًّا؛ لأن ما كان في كله ضارًّا كان في جزئه كذلك، ويشمله قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إنها ليست بدواء، ولكنها داء».
الوجه الثاني: عدم جواز التداوي إجمالًا بما هو محرم؛ لحديث «ولا تتداووا بحرام»، ويستثنى من ذلك التداوي بالنجاسات من غير الخمر، واستدل من قال بجواز ذلك بحديث النفر من قبيلة عرينة حين أتوا رسول الله -ﷺ- في المدينة، وبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض، فسقمت أجسامهم، فشكوا ذلك إليه، فقال: «أفلا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبوا من ألبانها وأبوالها»؟، قالوا: بلى!، فخرجوا، فشربوا من ألبانها وأبوالها، فصَحُّوا، فقتلوا راعيَ رسول الله -ﷺ-، واطردوا النعم([3]).
ويشترط للتداوي بالنجاسات شرطان:
الشرط الأول: ألا يكون هناك طاهر يقوم مقامها، فإن وجده حرم التداوي بها.
والشرط الثاني: أن يكون المتداوي عارفًا بالطب، يعرف أنه لا يقوم غير هذا مقامه، أو أن طبيبًا مسلمًا عدلًا أخبره بذلك([4]).
الوجه الثالث: التداوي بالسموم: وقد بيَّن الماوردي أنّ السموم على أربعة أضرب:
الأول: ما يقتل الكثير والقليل منه، فهذا أكله للتداوي حرام؛ لقول الله -تعالى-: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
الثاني: ما يقتل الكثير منه دون القليل، فأكل كثيره للتداوي حرام، أما القليل فإن كان مما ينفع في التداوي جاز أكله.
الثالث: ما يقتل في الغالب، وقد لا يقتل، فحكمه كما قبله.
الرابع: ما لا يقتل في الأغلب، وقد يجوز أن يقتل، وفي ذلك ذكر عن الإمام الشافعي في موضع إباحة أكله، وفي موضع آخر تحريمه، فجعل ذلك بعض أصحابه على حالين، فحيث أباح إذا كان للتداوي، وحيث حرم أكله إذا كان غير منتفع به في التداوي([5]).
مسألة الاضطرار:
ورد النص في القرآن الكريم على تناول المحرم في حال الاضطرار بدلالة قول الله -تعالى-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم}([6])، وقوله -تعالى-: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}([7])، وقوله -تعالى-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم}([8]).
والمقصود بالاضطرار ما كان مصدره الإكراه وعدم الاختيار، وقد أجمع العلماء على جواز الأكل من الميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك بقدر سد الرمق، ومنهم من وردت الرواية عنه بجواز الأكل بقدر الشبع([9]).
والسؤال هو: هل يعتبر التداوي في حكم الاضطرار؟، أي: هل يجوز للمريض تناول ما هو محرم بقصد الشفاء من مرضه؟.
في الجواب عن هذا حصل الخلاف بين الفقهاء، فمن يقول بالجواز يستدل بإباحة النبي -ﷺ- الحرير لعبد الرحمن بن عوف؛ لمعالجة حكّة كانت فيه، ومن يقول بالمنع يستدل على ذلك بقول النبي -ﷺ-: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها»([10]).
ولعل الصواب في ذلك هو المنع؛ لأن بين الأكل للاضطرار وبين التداوي فرقًا واضحًا، فالاضطرار مُتَيَقَّنٌ في حال الطعام أو الشراب؛ لأن فقدهما أو فقد أحدِهما يعرّض النفس -لا محالة- للهلاك، بينما الاضطرار في التداوي أمر غير مُتَيَقَّنٍ، فمنذ أن أوجد الإنسان الطب والتداوي لم يجزم أحد منه بأن دواء بعينه يشفي شفاءً قاطعًا لمرض ما، فالدواء في كل الأحوال أنواع تقتضي الخيار والاحتمال، وبمعنى آخر أن أحدًا لا يستطيع اليوم أن يقول: إن هذا النوع أو ذاك من المحرمات ضرورة قاطعة لشفاء مرض ما، فلهذا يبقى الاضطرار لدواء معين أمرًا غير متيقن، وبالتالي يصعب قياس حالة التداوي على حالة الاضطرار للأكل أو الشرب.
أما إذا تحول المحرم إلى صفة أخرى غير صفته فللعلماء في ذلك عدة أقوال:
فمن ذلك: قول الإمام محمد صاحب الإمام أبي حنيفة: “إن النجاسة لما استحالت، وتبدلت أوصافها ومعانيها، خرجت عن كونها نجاسة؛ لأنه اسم لذات موصوفة، فتنعدم بانعدام الوصف، وصارت كالخمر إذا تخللت. وفي المذهب الحنفي أقوال على خلاف ذلك، فإذا أصابت الأرضَ مثلًا نجاسةٌ، فجفَّتْ، وذهب أثرها فلا تجوز الصلاة عليها”([11]).
ومثل قول الإمام محمد قول ابن العربي في كتابه أحكام القرآن: إنه إذا احتاج إلى التداوي بالميتة فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمةً بعينها، أو يستعملها محرقة، فإن تغيرت بالإحراق فقد قال ابن حبيب: يجوز التداوي بها والصلاة([12]).
ومثل ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية: والخبائث التي حرمها الله -تعالى- كالميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك إذا وقعت في ماء أو سائل آخر، واستهلكت بأن تفرقت أجزاؤها، واضمحلت في السائل لم يبق هناك ميتة ولا دم ولا لحم خنزير([13]).
والمقصود بهذا أن المحرَّم انقلب من صفته التي كان عليها إلى صفة أخرى مغايرة لطبيعته وتكوينه واسمه، بأن صارت المادة المحرمة بعد حرقها مادة أخرى غير الأولى، وأصبح السائل المحرم أو الجامد المحرم سائلًا آخر غير الأول.
وقد أبان هذا الإمام ابن حزم بقوله: “إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم الذي ورد ذلك الحكم منه، وانتقل إلى اسم آخر واردٍ على حلال طاهر، فليس هو ذلك النجس ولا الحرام، بل قد صار شيئًا آخر”([14]). وهنا لا نكون أمام مادة محرمة، بل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر -كما يقول الإمام ابن حزم-، يجوز التداوي به.
وخلاصة المسألة: أن ظَنَّ السائل لا ينبغي أن يكون مصدرًا للحكم بأن الدواء الذي يتعاطاه محرم؛ لأنه لا يعرف الطب، ولا يعرف الأدوية ومركباتها، ولأن الظن أكذب الحديث كما قال رسول الله -ﷺ- ([15])، أما إذا تأكد له بدليل قاطع من طبيب عدل، أو من صيدلي عدل أن الدواء الذي يتناوله من المحرمات الواضحة فعليه البحث عن طبيب عدل يصف له من الدواء ما أحله الله له؛ امتثالًا لقوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}([16]).
والله أعلم.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر، وأنّها ليست بدواء، صحيح مسلم بشرح النووي، ج13 ص152-153.
([2]) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، برقم (3874)، ج4 ص7، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (١٦٩٠).
([3]) أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب القسامة، برقم (6899)، صحيح البخاري، ج8 ص43.
([4]) المجموع شرح المهذب، ج9 ص50-52، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج8 ص14.
([5]) نيل الأوطار، ج9 ص94، وانظر: الأم، ج2 ص246-247، وبجيرمي على الخطيب، ج4 ص160، 163.
([7]) سورة الأنعام من الآية 119.
([9]) المجموع، ج9 ص50-52، وانظر: الأم، ج2 ص252، والمغني ج11 ص78، ونهاية المحتاج، ج8 ص159، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج21 ص80.
([10]) بداية المجتهد، ج1 ص476، وصحح الحديث السفاريني الحنبلي في كشف اللثام، (٦/٢٠٠).
([14]) معجم فقه الإمام ابن حزم، ج2 ص1012.
([15]) متفق عليه، أورده صاحب اللؤلؤ والمرجان، في كتاب البر والصلة، والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، برقم (1660)، ج3 ص190.