والجواب عن هذا: أننا لا نعلم حقيقة ما ذكره السائل، ولكننا سننظر إلى السؤال من ناحية علمية مجردة، وهي: هل يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه في دعوى تقام لديه؟.
لقد اختلف الفقهاء في ذلك، ففي المذهب الحنفي: ينبغي التفريق بين حالتين:
الحالة الأولى: قضاء القاضي بعلم استفاده في زمن القضاء ومكانه، بأن سمع رجلًا يقر لآخر بمال، أو سمعه يطلق امرأته، أو يقذف رجلًا، أو يقتل إنسانًا، وهو قاض في البلد الذي يتقلد قضاءه؛ فقضاؤه بعلمه جائز، ولكن لا يجوز قضاؤه بعلمه في الحدود الخالصة، وذلك بلا خلاف في المذهب.
الحالة الثانية: قضاء القاضي بعلم استفاده في غير زمن القضاء ومكانه، أو في زمان القضاء في غير مكانه، وذلك قبل أن يصل إلى البلد الذي تقلد قضاءه.
فعند الإمام أبي حنيفة: لا يجوز أصلًا، وعند صاحبيه يجوز فيما سوى الحدود الخالصة([1]).
وفي المذهب المالكي: لا ينبغي للقاضي القضاء بعلمه، سواء علم ذلك قبل القضاء أو بعده، وهذا رأي الإمام مالك، ويرى ابن الماجشون أن له القضاء بما سمعه من المتخاصمين في مجلس الحكم([2])، وعند اللخمي: ليس له أن يقضي بما كان عنده من العلم قبل أن يلي القضاء، ولا بعد أن وليه، ولم يكن في مجلس قضائه أو كان فيه، وقبل تحاكمهما إليه، إلا في التعديل والتجريح للشهود، فيستند فيها لعلمه، ولأبي عمر أن له أن يعدل ويجرح بعلمه، وأنه إن علِم ما شهد الشهود على غير ما شهدوا به أنه ينفذ علمه، ويرد شهادتهم بعلمه.
وفي رأي آخر في المذهب يرى سحنون أنه لو شهد عنده عدلان مشهودان بالعدالة، وهو يعلم خلاف ما شهدا به، لن يحكم بشهادتهما ولن يردها، ولكن يرفع ذلك إلى ولي الأمر، ويشهد بما علِم، وغيره بما علِم، كما يرى أنه لو شهد شاهدان ليسا بعدلين على ما يعلم أنه حق، فلن يقضي بشهادتهما([3]).
وفي المذهب الشافعي: لا يجوز للقاضي القضاء بخلاف علمه، كما لو شهدت عنده بينة بنكاح أو ملك من يعلم بينونتها أو عدم ملكه؛ لأنه قاطع ببطلان الحكم به حينئذ، والحكم بالباطل محرم، ولكن لا يجوز له القضاء في هذه الصورة بعلمه؛ لمعارضته بالبينة مع عدالتها ظاهرًا([4])، وروي عن الإمام الشافعي قولان: أحدهما: أنه يجوز للقاضي الحكم بعلمه، وثانيهما: عدم جواز ذلك([5]).
وظاهر المذهب الحنبلي: أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه في حدود ولا في غيرها، لا فيما علِمه قبل الولاية، ولا بعدها، وهو قول عدد من الفقهاء، منهم شريح وإسحاق ومحمد بن الحسن والشعبي، وفي رواية عن الإمام أحمد أنه يجوز للقاضي الحكم بعلمه([6]).
واستدل من يرى الجواز للقاضي أن يحكم بعلمه بأن عمر بن الخطاب حكم في قضية بعلمه، ومفادها: أن رجلًا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على أبي سفيان بن حرب بأنه ظلمه حدًّا في موضع من المواضع، فقال عمر: إني لأعلم الناس بذلك، وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان، فأتني بأبي سفيان، فأتاه به، فقال له عمر: يا أبا سفيان! انهض بنا إلى موضع كذا وكذا، فنهضوا، ونظر عمر، فقال: يا أبا سفيان! خذ هذا الحجر من ها هنا، فضعه ها هنا، فقال أبو سفيان: والله لا أفعل، فقال عمر: والله لتفعلن، فقال: والله لا أفعل، فعلاه عمر بالدرة، وقال: خذه لا أم لك، فضعه هنا، فإنك ما علمت قديم الظلم، فأخذ أبو سفيان الحجر، ووضعه حيث أراد عمر، ثم إن عمر استقبل القبلة، فقال: اللهم لك الحمد حيث لم تُمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه، وأذللته بالإسلام، كما أن أبا سفيان استقبل القبلة، وقال: اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما ذللت به لعمر([7]).
ويرى الإمام ابن قدامة أن المعول في ذلك هو قول النبي -ﷺ-: «إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه»([8]) فدل هذا على أنه -ﷺ- يقضي بما يسمع لا بما يعلم، واستشهد في ذلك بأن النبي -ﷺ- بعث أبا جهم على الصدقة، فلاحاه رجل في فريضة، فوقع بينهما شجاج، فأتوا النبي -ﷺ-، فأعطاهم الأرش، ثم قال: «إني خاطب الناس، ومخبرهم أنكم قد رضيتم، أرضيتم»؟، قالوا: نعم!([9])، ثم يقول الإمام ابن قدامة: وهذا يبين أنه لم يأخذ بعلمه.
كما استشهد بما روي عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال: لو رأيت حدًّا على رجل لم أحده حتى تقوم البينة([10]).
هذه خلاصة آراء المذاهب في هذه المسألة، ولعل الراجح-والله أعلم-عدم السماح للقاضي أن يحكم بعلمه للأسباب التالية:
أولها: أن للقاضي صفة واحدة، هي أنه حكم بين متخاصمين، وهذه الصفة تختلف عن صفة الشاهد، فإذا حكم بعلمه أصبح شاهدًا وقاضيًا في وقت واحد، وهذا لا يجوز؛ لما فيه من التعارض بين صفتين، لكل منهما خصائصها وطبيعتها.
ثانيها: أن القاضي مكلف بوزن البينات، ولما كان علمه يعتبر بينة فإنه لا يقدر على وزن بينته، ولو كان ظاهره وحقيقته التقوى، وقد دلت سيرة السلف الصالح-رضوان الله عليهم-أنهم كانوا يتورعون عن تزكية أنفسهم مهما كان صلاحهم، ناهيك بورعهم وحرصهم على التثبت في جميع أمورهم.
وثالثها: أن الخصم ينظر إلى القاضي نظرة مجردة من الشبهات؛ لأنه يعتقد حياده ونزاهته، ومساواته للخصوم، فإذا حكم بعلمه فإن الخصم المحكوم عليه سينظر إلى حكمه بالشك والريبة، ولو كان في حقيقته عادلًا وصحيحًا.
ورابعها: أن في الجواز للقاضي الحكم بعلمه مظنة التهافت على تتبع حوادث الناس، وكشف أسرارهم، وليست هذه من صفات القاضي.
وخلاصة المسألة: أنه لا يجوز للقضاة ومن في حكمهم من المستشارين أو المحكمين أو الخبراء الاعتماد على علمهم الشخصي في القضايا والمشكلات التي يحكمون أو يبدون آراءهم أو خبرتهم فيها، سواء كان هذا الاعتماد مباشرًا أو غير مباشر، أو كان في زمن القضاء ومكانه أو قبله، وذلك اقتفاء أو اتباعًا لما قال رسول الله بأنه يحكم على نحو ما يسمع. والله أعلم.
([1]) انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ج7 ص6-7.
([2]) القوانين الفقهية لابن جزي المالكي، ص194.
([3]) انظر في هذا: شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل للشيخ عليش، ج8 ص359-360، وانظر: المدونة الكبرى، ج4 ص78.
([4]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج8 ص259-260.
([5]) ترشيح المستفيدين على فتح المعين بشرح قرة العين، ص405.
([6]) المغني والشرح الكبير، ج11 ص400.
([7]) أورده البيهقي في السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب من قال: ليس للقاضي أن يقضي بعلمه، ج10 ص143.
([8]) متفق عليه، أخرجه البخاري، (٧١٦٩)، وأخرجه مسلم (١٧١٣) باختلاف يسير.
([9]) أورده البيهقي في السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب من قال: ليس للقاضي أن يعمل، ج10 ص144، صحح إسناده الألباني في صحيح النسائي، (٤٧٩٢).