والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: وجه عموم، وهو أن العدل أصل شرعي، فهو حق لله في علاقته مع خلقه، حيث قال -تعالى-: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين} [الأنبياء: 47]، وهو أمر الله لخلقه حين أوجب عليهم الالتزام به في تعاملهم؛ لعلمه اليقين أنه لا بد منه لهم لكي تستقر حياتهم، وتستقيم أحوالهم، ويطيب معاشهم، ومن حكمة الله البالغة أن جعل العدل عامًّا واجبًا لكل إنسان، بصرف النظر عن دينه أو جنسه أو نوعه، وفي ذلك قال-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامينَ للّه شُهَدَاء بالْقسْط وَلَا يَجْرمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدلُواْ اعْدلُواْ هُوَ أَقْرَبُ للتَّقْوَى} [المائدة: 8]، ثم أكد -سبحانه- هذا الأمر بقوله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90]، وهذا في لفظه ومعناه أمر لازم يوجب على المكلف تجنب الظلم، وإحقاق الحق في صوره كافةً.
الوجه الثاني: وجه خصوص، وهو عدم جواز تفضيل الأب أيًّا من أولاده على الآخر، وأن الواجب عليه العدل والمساواة بينهم في العطية ونحوها، وقد بين ذلك رسول الله -ﷺ- بيانًا واضحًا في قوله: (اعدلوا بين أولادكم في العطية)([1])، وفيما رواه النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- بقوله: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله -ﷺ-، فأتى رسول الله -ﷺ-، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله!، قال: (أعطيتَ سائر ولدك مثل هذا)؟، قال: لا، قال: (فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)، قال: فرجع، فرد عطيته([2]).
وقد رُوي هذا الحديث من عدة طرق، ورد فيها قول رسول الله -ﷺ-: (لا أشهد على جور)، وقوله في رواية أخرى: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواءً)؟، قال: بلى! قال: (فلا إذن)([3]).
ورغم اختلاف لفظ الرواية لهذا الحديث إلا أنه واضح في تأكيد رسول الله -ﷺ- على العدل بين الأولاد، ونهيه عن تفضيل بعضهم على بعض؛ لأن ذلك من باب الجور، والخروج على أحكام العدل الذي أمر الله به عباده.
وقد استدل الفقهاء بهذا الحديث على كراهية المفاضلة بين الأولاد، ففي المذهب الحنفي: قال أبو يوسف: العدل أن يُسوي بينهم في العطية، ولا يفضل الذكر على الأنثى. وذكر محمد أنه ينبغي للرجل أن يسوي بين ولده في النحل، ولا يفضل بعضهم على بعض([4]). وقال الإمام الكاساني: إن في قول النبي -ﷺ-: (فارجعه) إشارةً إلى العدل بين الأولاد في النحلة وهو التسوية بينهم، ولأن في التسوية تأليفَ القلوبِ، والتفضيلَ يورث الوحشة بينهم، فكانت التسوية أولى، ونحل البعض وحرمان الآخر جائز من طريق الحكم؛ لأنه تصرف في خالص ملكه، لا حق لأحد فيه، إلا أنه لا يكون عدلًا([5]).
وفي المشهور من المذهب المالكي: يكره أن يهب بعض ولده صغيرًا أو مريضًا كل ماله أو جله، أما الشيء منه فذلك جائز، وإذا وقع المكروه مضى، ولكن بشرطين، أولهما: الحيازة قبل موت أو مرض الواهب. وثانيهما: ألا يمنع من ذلك باقي الأولاد في حياة والدهم الواهب؛ مخافة مطالبتهم بنفقتهم، فإن لم يتحقق هذان الشرطان ردت الهبة([6]).
وفي المذهب الشافعي: يستحب ألا يفضل بعض أولاده على بعض في الهبة؛ لحديث النعمان المشار إليه، وقال الإمام الشافعي: “ولأنه يقع في نفس المفضول ما يمنعه من بره، ولأن الأقارب ينفس بعضها بعضًا ما لا ينفس العدى، فإن فضل بعضهم بعطية صحت العطية”، واستشهد -رحمه الله- بأن النبي -ﷺ- قال في قضية النعمان بن بشير: (أشهد على هذا غيري)، فلو لم يصح لبين له، ولم يأمره أن يشهد عليه غيره.
وقد ذكر الإمام النووي الأجوبة التي وردت على حديث النعمان بن بشير، ومنها: أن قول رسول الله -ﷺ-: (أشهد على هذا غيري) إذن بالإشهاد على ذلك، وإنما امتنع عنه لكونه الإمام، وكأنه قال: لا أشهد؛ لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم … إلخ([7]).
وفي المذهب الحنبلي: يجب رد الهبة في حال المفاضلة بين الأولاد؛ لأن قول النبي -ﷺ-: (أشهد على هذا غيري)، و(سَوِّ بينهم) دليل على التحريم؛ لأنه سماه جورًا، وأمر برده، وامتنع عن الشهادة عليه، والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمُنع منه، كما هو الحال في تزويج المرأة على عمتها أو خالتها([8]).
وفي المذهب الظاهري: “لا يحل لأحد أن يهب، ولا أن يتصدق على أحد من ولده حتى يعطي أو يتصدق على كل واحد منهم بمثل ذلك”، واستشهد الإمام أبو محمد بن حزم بأن أبا بكر وعمر وعثمان وجمعًا من الصحابة-رضوان الله عنهم-قالوا بذلك، لا يعرف لهم منهم مخالف([9]).
ومن الأقوال السابقة يتبين أن الفقهاء اختلفوا في مسألة تفضيل الأب بعض أولاده على بعض في الهبة، أو هبة جميع ماله لبعضهم دون بعض، فالجمهور على كراهية ذلك، ولكنه إذا وقع جاز، ودليلهم في ذلك: أن من حق الرجل أن يهب في صحته جميع ماله للأجانب؛ فلهذا له أن يهبه لولده من باب أولى، واحتجوا في ذلك بأن أبا بكر -رضي الله عنه-نحل ابنته عائشة جذاذ عشرين وسقًا من مال الغابة، فلما حضرته الوفاة قال: “والله يا بنية! ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدي منكِ، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإن كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث”([10]).
أما الإمام ابن حزم فيرى عدم جواز التفضيل، وبطلانه إذا وقع ذلك؛ أخذًا بظاهر حديث النعمان بن بشير المشار إليه.
الوجه الثالث: التفضيل لسبب معقول، يكون التفضيل في الغالب لسبب، وقد يكون هذا السبب معقولًا، مثل أن يكون المفضَّلُ بَرًّا بوالده، ملازمًا له في كبره، قاضيًا حاجاتِهِ، وذلك على خلاف المفضول، فهنا يكون السبب معقولًا في تفضيل الأول؛ لأن النفس البشرية ميالة إلى من يحسن إليها.
وقد يكون التفضيل لسبب آخر، وذلك حين يقوم الولد على خدمة مال أبيه تاجرًا أو مزارعًا أو نحو ذلك، في الوقت الذي لم يفعل إخوته مثله، كما لو استقلوا بأنفسهم، فإذا فضل الوالد العامل معه يكون ذلك من باب المكافأة له لقاء عمله؛ إذ ليس من العدل أن يتساوى مع من لم يتساوَ معه في العمل وتنمية المال، وقد يكون التفضيل لمعنى من معاني العطف والشفقة، كما لو كان المفضَّلُ مريضًا أو مقعدًا، أو ذا عائلة يصعب عليه إعالتهم، أو نحو ذلك.
وفي المذهب الحنبلي جواز ذلك، وقد أورد صاحب المغني أنه “إن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه، مثل: اختصاصه بحاجة، أو زمانة، أو عمًى، أو كثرة عائلة، أو اشتغاله بالعلم، أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله، أو ينفقه فيها، فقد روي عن الإمام أحمد ما يدل على جواز ذلك”([11]).
وخلاصة المسألة: أنه لا يجوز لوالد السائل تفضيل بعض أولاده على بعض؛ لما في ذلك من الجور الذي نهى عنه رسول الله -ﷺ-، ما لم يكن التفضيل راجعًا إلى سبب معقول، كحال المرض، أو الحاجة، أو كان بمثابة مكافأة للمفضَّل على جهده، ونحو ذلك، وفي كل الأحوال يشترط أن يكون التفضيل في حال الحياة والصحة، ويحرم إذا كان في حال المرض؛ بدلالة ما فعله أبو بكر -رضي الله عنه-مع ابنته عائشة، كما يحرم إذا كان بعد الوفاة؛ لأنه يكون حينئذ بمثابة الوصية، “ولا وصية لوارث” كما قال ذلك رسول الله -ﷺ-([12]).
والله أعلم.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب الهبة للولد، فتح الباري، ج5 ص249.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب الإشهاد في الهبة، برقم (2587)، فتح الباري ج5 ص 250.
([3]) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج6 ص 127، أخرجه البخاري (٢٦٥٠)، ومسلم (١٦٢٣).
([6]) الفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني، ج2 ص173-174، وانظر: أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك، للكاندهلوي، ج12 ص253-262.
([8]) المغني والشرح الكبير، ج6 ص262-263.
([10]) موطأ الإمام مالك ص 533، وانظر-أيضًا-: بداية المجتهد، ج2 ص327-328، والسنن الكبرى للبيهقي، ج6 ص170.
([11]) المغني والشرح الكبير، ج6 ص265.
([12]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الوصايا، باب “لا وصية لوارث”، برقم (2713، 2714) سنن ابن ماجة، ج2 ص 905 – 906، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢٢٠٩).