ومفاد هذه المسألة عن حكم العامل الذي عمل في مكان تباع فيه المحرمات، وارتَكَبَ فيه أفعالًا محرمة، وكسب من ذلك بعض المال، واختلط هذا بماله الآخر، ثم ترك ذلك المكان، وتاب مما فعل، وأصبح يؤدي شعائر دينه بتقى وإخلاص، فماذا يفعل بما كسبه من عمله غير المباح؟، وماذا يفعل إذا كان كل ماله حرامًا؟.

حكم من اكتسب مالًا من عمل غير مباح، ثم تاب منه

والجواب عن هذا من وجهين:

الأول: الكسب من عمل غير مباح: والأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يعمل عملًا فيه معصية لله، سواءٌ كان ذلك بالمباشرة، أو الواسطة، أو بغيرهما، والأصل -أيضًا- أنه لا يجوز له الإضرار والتمادي في المعصية؛ لأن الاستمرار فيها معصية أخرى، والأصل -أيضًا- وجوب التوبة منها؛ امتثالًا لقول الله -تعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [النور: 31]، وقوله -تعالى-: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [الحجرات: 11]، وأن تكون هذه التوبة بشروطها الثلاثة: الندم عليها، والإقلاع عنها، والعزم على عدم العودة إليها، ويضاف إلى هذه الشروط شرط رابع، هو المبادرة بها قبل حلول الأجل؛ لأن الله -تعالى- يقول: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18].

والكسب من عمل غير مباح يتعلق به حقان:

الأول: حق الله -تعالى- المترتب من معصية أوامره، وارتكاب نواهيه، فبائع الخمر مثلًا مرتكب معصية، وهذه المعصية متعلقة في الغالب بحق الله -تعالى-، ولا يتحقق الخلاص منها إلا بالتوبة بشروطها المشار إليها آنفًا.

ولكن ماذا يفعل التائب بما كسبه من بيع المحرمات؟.

إن الحق الغالب في مثل هذه الأفعال لله -تعالى-، وهو المتكفل بالعفو عما يفعله عباده من خطايا إذا صدقوا في توبتهم، وأخلصوا فيها، وفي ذلك قال -تعالى-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [الزمر: 53]، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم: 8]، فإن قيل: إن على التائب أن يرد كسبه المحرم إلى صاحبه حتى يتخلص من إثمه، لوجدنا أنه صاحب المكان الذي تباع فيه المحرمات -كما في حالة السؤال-، وهذا لا حق له أصلًا؛ لأن فعله محرم، والفعل المحرم لا يُكْسبُ، ولا يضْمنُ حقًّا لأحد.

ولهذا يعتبر الكسب الذي أشار إليه السائل في حكم المال الحرام المختلط بالمال الحلال، فإن استطاع أن يميز المال الحرام، ويخرجه فهذا هو الواجب عليه، وإن لم يستطع أخرج منه ما يشك في حرمته، وأنفقه فيما يعتقد نفعه.

الحق الثاني: حق العباد: المترتب من غصب أموالهم، أو التحايل عليها بأي طريق يسلبها الغاصب أو المتحايل منهم بدون حق، سواءٌ كان ذلك بالتعدي على حق المرء، كغصب ماله، أو سرقته، أو بالتعدي على حقوق الأمة، كخيانة الموظف أو الولي، واستغلالهما لها، والأصل أن يعيد الفاعل حقوق الأفراد لهم، فيعيد المغصوب، ويرد المسروق، ويتخلى عن كل ما ليس له حق فيه.

فإن عجز عن ذلك، كما لو لم يستطع معرفة من غصبه أو ظلمه حقه، وجب عليه أن يتصدق به عنه، وقد روي أن رجلًا غَلَّ من الغنيمة، ثم تاب، فجاء بما غله إلى أمير الجيش، فأبى أن يقبله منه، قال: كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا؟، فأتى حجاج بن الشاعر، فقال: يا هذا! إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم، فادفع خُمسه إلى صاحب الخمس، وتصدق بالباقي عنهم، فإن الله يوصل ذلك إليهم، ففعل، فلما أُخبر معاوية قال: “لأن أكون أفتيتُكَ بذلك أحب إلى من نصف ملكي”([1]).

ويورد الإمام ابن القيم الرد على من قال بوقف هذا المال، وعدم التصرف فيه بأن “المجهول في الشرع كالمعدوم، فإذا جهل المالك صار بمنزلة المعدوم، وهذا مال لم يعلم له مالك معين، ولا سبيل إلى تعطيل الانتفاع به؛ لما فيه من المفسدة والضرر بمالكه، وبالفقراء، وبمن هو في يده، أما المالك فلعدم وصول نفعه إليه، وكذلك الفقراء، وأما من هو في يده فلعدم تمكنه من الخلاص من إثمه، فيغرمه يوم القيامة من غير انتفاع به، ومثل هذا لا تبيحه شريعة، فضلًا عن أن تأمر به، وتوجبه، فإن الشرائع مبناها على المصالح بحسب الإمكان، وتكميلها، وتعطيل المفاسد بحسب الإمكان، وتقليلها، وتعطيل هذا المال ووقفه ومنعه عن الانتفاع به مفسدة محضة لا مصلحة فيها، فلا يصار إليه”([2]).

الوجه الثاني: ما يفعله صاحب المال بماله إذا كان كله حرامًا، كما لو كان من ثمن الخمر، فهذا عليه أن يتوب أولًا مما فعل، وبالنسبة لماله فيرى الإمام ابن تيمية أن مثل هذا إن كان فقيرًا جاز أن يصرف له من هذا المال مقدار حاجته، وإن كان يقدر أن يتجر أو يعمل صنعة أُعْطي ما يكون له رأس مال([3])، ولعل ما رآه في هذه المسألة الإمام ابن تيمية -رحمه الله – هو الصواب، فالقول بوقف هذا المال وتركه سبيلٌ إلى تعطيل الانتفاع به، كما أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم آنفًا، والقول بالتصدق به؛ لأن الصدقة لله، والله لا يقبل إلا الطيب من المال([4]).

وخلاصة المسألة: أن المال الذي كسبه العامل في الشق الأول من السؤال، وضمه إلى ماله الآخر يعدُّ مالًا حرامًا اختلط بالمال الحلال، فإن استطاع تمييز المال الحرام فعليه إخراجه كله، وإن لم يستطع أخرج منه ما يشك في حرمته، وأنفقه فيما يعتقد نفعه، فإن كان المال الحرام يتعلق بحقوق العباد وجب رده إلى أصحابه، فإن لم يستطع معرفتهم أو تمييزهم تصدق به عنهم، وإذا كان المال كله حرامًا -كثمن الخمر- فعلى صاحبه التوبة، ويصرف له من هذا المال مقدار حاجته إن كان فقيرًا، ويعطى منه ما يتجر به، أو يعمل له منه صنعة.

والله أعلم.

([1]) مدارج السالكين للإمام ابن القيم، ج1 ص419.

([2]) مدارج السالكين، ص419-420.

([3]) الفتاوى للإمام ابن تيمية، ج29 ص308-309.

([4]) الفتاوى لابن تيمية ج29 ص 308-309.