والجواب: أن للمال ثلاث صفات: مال حلال، ومال حرام، ومال شابه شيء من الشوائب. فالمال الحلال ما جمعه صاحبه من طرق مشروعة، والمال الحرام ما جمعه صاحبه عن طريق الظلم والإكراه والرشوة والخيانة وأنواع الربا وغير ذلك من الطرق المحرمة شرعًا. ومال جمعه صاحبه ولكنه مشوب بشائبة وعلق به شيء من أدران الكسب مما لا يعلم عن ذلك صاحبه.
فالمال الحلال هو محل الزكاة ولا تكون إلا من طيبه، فإذا كان للمزكي مال جيد ومال رديء وجب عليه إخراج الزكاة من جيده وليس من رديئه لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيد} [البقرة: 267]. وفي ذلك قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- وابن سيرين رحمه الله: أن المقصود بذلك الزكاة المفروضة، ونهي الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد. وقيل إن الآية في صدقة التطوع، وقيل تشمل الوجهين وهو الأصح([1]). وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} تأكيد لوجوب الإنفاق من الطيبات ونهيٌ عن إنفاق الرديء. وفي ذلك روى الدارقطني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: أمر رسول الله ﷺ بصدقة فجاء رجل من هذا السُحل بكبائس فقال رسول الله ﷺ: (من جاء بهذا؟)، وكان لا يجيء أحد بشيء إلا نسب إلى الذي جاء به فنزلت هذه الآية. وفي قوله تعالى: {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} توكيد آخر للذين ينفقون الرديء بأنهم لن يأخذوه إلا إذا أغمضوا أي تساهلوا فيه. وكان هذا المعنى كما يقول الإمام القرطبي عتاب وتقريع للناس([2])، وفي قوله أيضًا: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيد} توكيد آخر بأن الله سبحانه وتعالى غني عن صدقات خلقه فمن تقرب إليه وطلب مثوبته فليفعل ذلك([3]).
وقد تعرض الفقهاء لهذه المسألة:
ففي المذهب الحنفي: تحرم الصدقة من المال الحرام كما سنرى.
وفي المذهب المالكي: ينبغي أن تكون الزكاة من أطيب الكسب ومن خياره([4]).
والإمام الشافعي: نص على ذلك بقوله: «فحرام على من عليه صدقة أن يعطي الصدقة من شرها، وحرام على من له تمر أن يعطي العشر من شره ومن له الحنطة أن يعطي العشر من شرها ومن له ذهب أن يعطي زكاتها من شرها»([5])، وقد سمى الله المال الحرام سحتًا في قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، وقد سُمي سحتًا؛ لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها، وقال فيه رسول الله ﷺ: (لن يدخل الجنة لحم نبت من سحت)([6]).
والمال الحرام ليس محلًا للزكاة بأي وجه وذلك لسببين:
أولهما: أن الزكاة قربة إلى الله تعالى ولا يجب التقرب إليه إلا بالطيب من العمل؛ لأنه طيب لا يقبل إلا طيبًا. كما أن الزكاة شكر له على نعمه فيما يسره للمزكي من المال، وجامع المال الحرام ليس شاكرًا لله؛ لأن الشاكر له حقيقة يجتنب نواهيه.
ثانيهما: أن الزكاة إعانة للفقير ولا تجوز إعانته من مال حرام، ومن المفترض فيه عدم قبول هذه الإعانة إذا علم أن مصدرها هذا المال ولو علم به فأكل منه فقد أثم.
وفي المذهب الحنفي: قول يشدد على حرمة التصدق من المال الحرام، فلو أن رجلًا دفع إلى فقير من هذا المال شيئًا يرجو به الثواب يكفر، ولو علم الفقير بذلك فدعا له وأمن المعطي كفرا جميعًا. والمقصود بذلك «رجاء الثواب الناشئ عن استحلاله»([7]).
ويضاف إلى ذلك ما ورد من أحاديث تعظم تحريم أكل المال الحرام وما يجازى به صاحبه، ومن ذلك قول رسول الله ﷺ: (من جمع مالًا من حرام ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه)([8])، وقوله في الرجل: (يمد يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)([9]).
أما المال المشوب بشيء من أدران الكسب فتجب فيه الزكاة بشرطين: أولهما: أن تكون الغلبة فيه للحلال؛ لأن العبرة فيما كثُر فيه وغلب عليه. وثانيهما: ألا يكون صاحبه على علم بما علِق به من الشوائب فيدخل هذا تحت حكم الجهل المعذور فيه حين لا يستطيع التحرز منه.
وخلاصة المسألة: أن الزكاة لا تصح إلا من المال الذي جمعه صاحبه من كسب حلال، كما تصح من المال الذي شابه شيء من أدران الكسب على شرط غلبة الحلال فيه. وجهل صاحبه بما علق به من هذه الأدران، ولا تصح مطلقًا من المال الحرام، وإخراجها من هذا المال لا يطهره ولا يزكيه.
والله أعلم.
([1])الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج3 ص320-326
([2]) الجامع لأحكام القرآن، ج3 ص320-326، والسُحل: الشيص وهو ما لم يتم إدراكه من الرطب.
([3]) الجامع لأحكام القرآن، ج3 ص320-326.
([4]) القوانين الفقهية لابن جزي الكلبي، ص68.
([6]) وانظر أيضاً الجامع لأحكام القرآن، ج6 ص182-183، والحديث رواه الدارمي في كتاب الرقائق، باب في أكل السحت، ج2 ص318، صححه الذهبي في الكبائر (269).
([7]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج3 ص289-290.
([8]) أخرجه ابن حبان في صحيحه، ج5 ص89، ضعفه الألباني في غاية المرام (18).
([9]) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة وأنواعها وأنها حجاب من النار، صحيح مسلم بشرح النووي، ج7 ص100.