ومفاد هذه المسألة سؤال يقول فيه صاحبه: إنه استأجر دارًا يسكنها بإيجار معلوم، ولأجل معلوم، ولكنه حين استغنى عنها أراد استغلال منفعتها، فمنعه المالك من التصرف فيها، سواءٌ بإسكان غيره فيها أو تأجيرها، بحجة أن عليه أن يسكنها بنفسه، ويسأل عما إذا كان يحق للمالك منعه أو لا؟.

حكم من استأجر عقارًا، فأجره بدون إذن مالكه

والجواب عن هذه المسألة مبني على حالتين:

الحالة الأولى: حق الانتفاع المطلق: ويقول بهذا عدد من الفقهاء([1]).

وبموجب هذا يحق للمستأجر التصرف في منفعة الدار المأجورة كيف شاء، فيَسكنها بنفسه، ويُسكِنُ غيره فيها بدون أجر، أو بأجر قَلَّ أو كثر، وليس عليه من قيد في استغلال منفعتها إلا “عدم الإضرار بها” هو ومن ينوب عنه فيها، فليس له مثلًا أن يُسكن فيها من يعرضها للخطر، كأن يضع فيها مواد مشتعلة، أو يضع فيها ما يوهنها، أو يؤثر على مظهرها أو منفعتها في العاجل أو الآجل.

والأساس في ذلك: حق العاقد في استيفاء منفعة ما عقد عليه بنفسه أو غيره.

الحالة الثانية: الانتفاع المقيد، ومن ذلك: ما لو شرط عليه المالك ألا يؤجر الدار، أو يُسكن فيها غيرَه، أو نحو ذلك من الشروط المقيِّدة للانتفاع، والسؤال هو ما إذا كان هذا الشرط جائزًا أم لا.

للفقهاء في ذلك أقوال، فعند الإمام أبي ثور: لا بد من التحديد، فيقول المستأجر مثلًا: أنا أريد المبيت فيها أنا وعيالي؛ لأن السكنى تختلف([2]).

وفي المذهب الشافعي: أن للمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه وبغيره الأمين؛ لأنها ملكه، فلو شرط عليه استيفاءَها بنفسه فسد العقد([3]).

وفي المذهب الحنبلي: أن العقد يصح، ويبطل الشرط، كما لو شرط أن يزرع في الأرض حنطة، ولا يزرعَ غيرها، فيبطل الشرط، ويصح العقد، ويقول صاحب المغني: “إن من المحتمل صحة الشرط، وهذا أحد الوجهين لأصحاب الإمام الشافعي([4]).

ولعل هذا هو الأقرب للعدل، فالمالك حين يؤجر داره قد يرغب في شخص بعينه، ولا يرغب في آخر، فهو مثلًا يرضى بهذا المستأجر؛ لأنه أمين على داره، ولا يرضى بذلك؛ لأنه على عكسه، والمستأجرون يتفاوتون في استيفاء المنفعة، فمنهم من يحرص على حق غيره كحرصه على حقه، ومنهم من لا يبالي بحق غيره، فإذا شرط المالك على المستأجر ألا يسكن في داره أو يؤجرها لغيره فقد قصد بذلك المحافظة على داره، وقبول المستأجر بهذا الشرط قبول بواجب، والتزامٌ بحق، وهذا الالتزام واجب النفاذ؛ لقوله-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بالْعُقُود} [المائدة: 1]، وقول رسوله -ﷺ-: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا)([5]).

وعلى هذا القول إذا كان المالك قد أجر الدار دون شرط يحدد صفة استيفاء المنفعة أو نوعها فحق المستأجر في منفعتها حق مطلق، لا يقيده إلا “عدم الإضرار بها”، أما إن كان المالك ومن هو في حكمه قد شرط على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه فيجب عليه الوفاء بالشرط،

والله أعلم.

 

([1]) انظر: بدائع الصنائع، ج4 ص216، ونهاية المحتاج، ج5 ص306-307، والمغني والشرح الكبير، ج6 ص51-52، وكشاف القناع، ج3 ص565.

([2]) المغني والشرح الكبير، ج6 ص 51 – 52.

([3]) نهاية المحتاج، ج5 ص 306 – 307.

([4]) المغني والشرح الكبير، ج6 ص 51 – 52.

([5]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب في الصلح، برقم (2353)، وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله-ﷺ-في الصلح بين الناس، برقم (1352)، وقال: “هذا حديث حسن صحيح”، سنن الترمذي ج3 ص634-635، وأخرجه البيهقي في كتاب الضمان، باب في الشركة وغيرها، بلفظ “المسلمون عند شروطهم”، السنن الكبرى ج6 ص 79، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٣٥٢).