ومفاد هذه المسألة سؤال يقول فيه صاحبه: إنه سلم سيارته لصاحب المرآب؛ لإصلاح ما فيها من عطل مقابل أجر محدد دفع له جزءًا منه، وبعد أيام اتصل به أحد العاملين في المرآب، وأخبره بفقد سيارته، مدعيًا أنها سُرقت، وعندما اتصل بصاحب المرآب مستفسرًا عما حدث أكد له حادثة السرقة، وعدم قدرته على تعويضه؛ لأن ما حدث كان بغير إرادته. ويسأل السائل عما إذا كان صاحب المرآب يضمن سيارته، خاصة وأنه سلمه إياها لإصلاحها، ويفترض فيه حفظها أثناء مدة الإصلاح.

مدى ضمان صاحب المرآب (الورشة) لما يفقد من مرأبه( )

والجواب: أن صاحب المرأب يخضع لأحكام الأجير المشترك المعروفة في الفقه الإسلامي( )، مثله مثل الصباغ والخياط والحمال، ونحوهم ممن وضع عمله ومهنته للإجارة لسائر الناس.
وللفقهاء أقوال متباينة في مدى ضمانه من عدمه:
فالإمام أبو حنيفة: يرى أن ما يوضع لديه يعد أمانة، ولا ضمان فيما يفقده عنده؛ لأن الأصل ألا يجب الضمان إلا على المتعدي؛ لقول الله -عز وجل-: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِين} [البقرة: 193]، والأجير ليس بمعتد؛ لكونه مأذونًا في القبض، والهلاك ليس من صنعه، ولهذا لا يجب عليه الضمان، وقال بمثل هذا زفر والحسن بن زياد.
وعند أبي يوسف ومحمد صاحبي إمام أبي حنيفة: يجب الضمان على الأجير المشترك، إلا إذا كان هناك حريق، أو غرق غالب، أو لصوص مكابرون، والحريق والغرق الغالبان: ما كان يتعذر على الأجير دفعه، فلو احترق بيته بسراج وجب عليه الضمان، وذلك لقدرته على استدراكه، فانتفى مع ذلك عذره، فإن هلك المأجور قبل عمله ضمن الأجير قيمته غير معمول، ولا أجر له، وإن كان هلاكه بعد العمل فلصاحبه الخيار، إن شاء ضمن قيمته معمولًا، وأعطى الأجير الأجير الأجر بحسابه، وإن شاء ضمن قيمته غير معمول، ولا أجر له، وحجتهما في الضمان ما روي عن رسول الله -ﷺ-أنه قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)( ).
فلما عجز الأجير عن رد عينه وجب عليه رد قيمته، كما احتجا بما روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يضمن الأجير المشترك احتياطًا لأموال الناس، وهو أن هؤلاء الأجراء تخشى الخيانة منهم؛ لأنهم يتسلمون المال من غير شهود، فإذا علموا أنهم لا يضمنون ما في أيديهم فسوف تهلك أموال الناس؛ لأنهم لا يعجزون عن دعوى الهلاك.
وعند الإمام أبي حنيفة: لا وجه للاستدلال بالحديث السابق؛ لأنه لا يتناول الإجارة، وإنما المراد منه الإعارة والغصب، كما أنه لا وجه للاستدلال بفعل عمر -رضي الله عنه-؛ لاحتمال أنه كان في بعض الأجراء، وهو المتهم بالخيانة( ).
وقد اختار المتأخرون من أصحاب المذهب الفتوى بالصلح على النصف، ومنهم من قال: ينظر في أمر الأجير، فإن كان معلمًا لا يجب عليه الضمان، وإن كان بخلافه وجب عليه، وإن كان مستور الحال يؤمر بالصلح، ومنهم من قال: لا يجب الضمان على الأجير المشترك إلا بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون في وسعه دفع الفساد.
والثاني: أن يكون محل عمله مسلمًا إليه بالتخلية، فلو كان صاحب المتاع معه، أو وكيله كما لو كان راكبًا في السفينة، فانكسرت بجذب الملاح، فلا يضمن.
الشرط الثالث: أن يكون المضمون مما يجوز أن يضمن بالعقد( ).
وخلاصة رأي المذهب الحنفي في ضمان الأجير المشترك -كما ورد في شرح مجلة الأحكام العدلية-: أن هلاك المأجور في يده يقع على أربعة أوجه:
الأول: بفعل الأجير الذي يقع بتعديه.
والثاني: بفعله.
والثالث: الشيء الذي لم يكن بفعله، ويقع بشيء لا يمكن الاحتراز منه، وفي هذا الوجه لا يلزمه ضمان.
والرابع: الشيء الذي يمكن الاحتراز منه كالغصب والسرقة مما ليس من فعله، ففي هذا الوجه لا يلزمه الضمان عند الإمام أبي حنيفة مطلقًا، سواءٌ أكان الأجير معلمًا أم لا، وعند الإمامين أبي يوسف ومحمد يلزمه الضمان مطلقاً( ).
وفي مذهب الإمام مالك: يضمن الأجير ما في يده، فقد سئل الإمام مالك عما إذا دفع الثوب إلى القصار ليغسله، أو إلى الخياط ليخيطه، ففعل، ثم ضاع الثوب بعد العمل، فهل يضمن قيمته يوم قبضه من صاحبه أو يدفع إليه أجره، ويضمن قيمته بعدما فرغ منه؟، فقال الإمام: عليه قيمته يوم دفعه إليه، ولا يُنظر إلى ما ابتاعه به صاحبه، غاليًا كان أم رخيصًا، وتضمين الصانع أو الأجير المشترك يعد في المذهب المالكي من السياسة الشرعية إذا نصب نفسه لذلك، سواءٌ عمل ذلك بأجر أو بغير أجر، وسواء عمله في حانوته أو داره.
وفي المذهب عدة أقوال، فقيل بعدم قبول دعواه إذا ادعى احتراق حانوته أو سرقته، ما لم تقم على ذلك بينة، وقيل بعدم ضمان من لم ينصب نفسه، وقيل بتضمينه كل ما أتى على يده من كسر أو قطع أو نحوه، إذا عمله في حانوته، وإن كان صاحبه قاعدًا معه إلا فيما فيه تغرير من الأعمال، مثل: احتراق الخبز عند الفران( ).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يضمن الأجير المشترك قيمة الشيء يوم تلفه( )، وفي قول عن الإمام الشافعي: أنه لا يضمن( ).
وفي المذهب الحنبلي: روي عن الإمام أحمد أن الأجير المشترك لا يضمن العين إذا تلفت من حرزه، وبلا تعدٍّ منه ولا تفريط، وفي رواية أخرى عنه: ضمان العين إن كان هلاكها بما استطاع، فإن جنت يد الأجير، أو ضاع الشيء من بين متاعه، لزمه الضمان، وإن كان غرقًا أو عدوًّا غالبًا، لم يلزمه شيء( ).
هذه مجمل أقوال الفقهاء، ويتبين من السؤال أن سيارة السائل قد سرقت من المرأب (الكراج) (الورشة) بفعل فاعل، ومن المهم معرفة الحالة التي كان عليها المرأب وقت السرقة، فإن كان محاطًا بجدار أو نحوه مما يعد كافيًا للحفظ ودرء الخطر، ولم يظهر من صاحب المرأب أو العاملين فيه ما يدل على التفريط، أو الإهمال، أو التواطؤ مع السارق، كعدم إقفال المرأب، أو نحو ذلك، لم يلزمه ضمان؛ لأن السرقة في حال كهذه من الأمور الغالبة، وليس في وسع صاحب المرأب دفعها، والأصل أنه لا أجر له في ذلك؛ لأن الأجر مقابل عمل على عيْن، ولما فُقِدت العين فُقِد العمل معها، وبالتالي فقد صاحب الأجر أجره، كما فقد صاحب العين عينه.
أما إن كان المرأب (الكراج) (الورشة) غير محاط بما يضمن حماية السيارات المراد إصلاحها، كما لو كانت متروكة في الشارع، أو كان المرأب في وضع يُعَرِّضُ ما فيه للسرقة، كإهمال أبوابه، أو ضعف جداره، أو نحو ذلك، فإن صاحبه يضمن لتفريطه؛ لأن أصحاب السيارات يفترضون وجودها في مكان آمن أثناء إصلاحها.
والأساس في هذه القضايا وقائعها، وشواهد حالها، وبيناتها، وما يتبين للقضاء من ملابساتها، فقد يضمن صاحب المرأب ما فُقِدَ من مرأبه رغم ما فيه من حماية، وذلك حين يظهر ما يدل على عدم أمانته، أو تواطؤ العاملين فيه، أو نحو ذلك.
وخلاصة المسألة: أن المرأب (الكراج) (الورشة) إذا كان مصونًا مما يعد كافيًا لحفظ السيارات والآلات الموجودة فيه، ولم يظهر من صاحبه أو العاملين فيه ما يدل على إهمالهم، أو تفريطهم، فلا ضمان عليه؛ لأن السرقة تعد من الأمور الغالبة، وفي هذه الحال لا أجر لصاحب المرأب على عمله؛ لأن الأجر مقابل عمل على عين، فإذا فقدت هذه العين فقد العمل معها. أما إن كان المرأب غير مصون بما يحفظ السيارات المراد إصلاحها، كما لو كانت متروكة في الشارع، أو كانت أبواب المرأب مهملة، فإن صاحبه يضمن لتفريطه، والأساس في هذه القضايا وقائعها وبيناتها.
والله أعلم.