الجواب عن هذا: أن المبالغة في الوصف قد تكون بـ”اللفظ”، فمن طبائع بعض الباعة تعداد محاسن بضاعته بقصد ترويجها، فإن كانت هذه البضاعة أطعمةً بالغ في وصفها، وإن كانت ألبسة عدد محاسنها، وهكذا يفعل أصحاب هذه البضائع عند إعلانهم عنها في وسائل الإعلام المسموعة، حتى أصبح الإعلان عن البضائع في العصر الحديث طريقة علمية منظمة، تأخذ في الحسبان مختلف الجوانب النفسية والاجتماعية للإنسان؛ بغيةَ دفعِه إلى شراء البضاعةِ المعلَنِ عنها.
وقد تكون المبالغة في الوصف بـ”الصورة”، فيستأجر أصحاب البضائع أشخاصًا تتوافر فيهم بعض الخصائص الجسمانية، فيصفون لمشاهديهم في وسائل الإعلان المرئية مميزات هذه البضاعة ومحاسنها، وفي إطار الرغبة في التسويق يتخذ الإعلان عن البضائع شكلًا من أشكال المبالغة أو الخداع، فيختلف وصف البضاعة عن حقيقتها، ومن ثم يتأثر من اشتراها بهذا الوصف، فيعتقد أنه قد تعرض لحالة من حالات الغش، وقد يكون الأمر يسيرًا إذا كان ما اشتراه منها محدوداً، ولكنه ربما أكثر من شرائها – كما هو حال صاحب السؤال -، فيبحث عندئذ عن مخرج للخلاص مما اشتراه منها.
والمبالغة في الوصف قد تؤدي إلى “الغرر”، وقد نهى رسول الله -ﷺ-عن هذا البيع، ومنه بيع الحَصَاةِ([1])، وبيع السمك في الماء، وبيع الطير في الهواء، وشراء ما في بطن الأنعام حتى تضع، وضربة الغائص، ونحو ذلك من البيوع المتصفة بالجهالة لعين المبيع([2])، ويُعرِّفُ الإمام النووي الغرر بأنه: “ما انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته”([3])، ويُعرفُه الإمام ابن تيمية بأنه: “المجهول العاقبة”، ويرى أن بيعه من المَيْسِرِ الذي هو القمار، فالفرس إذا شرد، وباعه صاحبه فإنما يبيعه مخاطرةً، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير، فإن حصل قال له البائع: قمرْتَني، وأخذت مالي بثمن قليل، وإن لم يحصل قال المشتري: قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض، فيفضي ذلك إلى مفسدة الميسر المؤدية إلى العداوة والبغضاء، مع مافيه من أكل المال بالباطل الذي هو نوع من الظلم، ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء([4]).
وفي المذهب المالكي: يجوز بيع الشيء الغائب على الصفة، ومن شروط هذا البيع: “حصر الأوصاف المقصودة كلها”، فإن خرج المبيع على حسب الصفة لزم البيع، وإن خرج على خلاف ذلك فللمشتري الخيار([5])، وعند الإمام مالك أن المبيع إذا جاء على الصفة فهو لازم، وعنده أن الصفة تنوب عن المعاينة لمكان غيبة المبيع، أو لمكان المشقة التي في نشره([6]).
وعند الإمام أبي حنيفة: يجوز بيع العين الغائبة من غير صفة([7]).
وعند الإمام الشافعي: لا ينعقد البيع بالوصف([8]).
ولما كان من اللازم صدق الوصف في المبيع الغائب-عند من يقول بجواز هذا البيع من الفقهاء-، فيقاس عليه وجوب صدق الوصف في الإعلان عن البيع، فإن لم يكن هذا الوصف صحيحًا صار الإعلان من باب التغرير للمشتري.
وقد عرفت مجلة الأحكام العدلية التغرير بأنه: “…توصيف المبيع للمشتري بغير صفته الحقيقية”، فالتغرير قد يكون في الثمن، ومن ذلك قول البائع عن المبيع: إنه باع مثله بكذا، بينما هو قد باعه بأقلَّ كثيرًا مما قال. ومن ذلك: حلفه اليمين أن ثمنه كذا، أو أن شخصًا أو أشخاصًا قد اشتروه بهذا الثمن، أو نحو ذلك مما يغرر بالمشتري، ويدفعه إلى شراء المبيع، وهذا مما يدخل في الكذب المحرم، ويدخل كذلك في تحذير رسول الله -ﷺ- من الحلف بقصد إنفاق السلعة ورواجها بقوله: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة)([9]).
والتغرير قد يكون بـ”التوصيف”، ومن ذلك: وصف البائع المبيعَ على غير حقيقته، فيصفه -مثلاً- بأنه من نوع جيد، بينما هو من نوع رديء. ومن ذلك: استعانة البائع بأشخاص يصِفون المبيع على غير حقيقته، أو استشهاده بهم لتصديقه فيما يصف. ويدخل في ذلك ما يرد في بعض الإعلانات عن البضائع من وصف لمنافعها بما لا يتفق مع طبيعتها.
والعلة في تحريم التغرير: ما يلحق المشتري بسببه من غَبْنٍ في ماله؛ مما يعد أكلًا له بالباطل الوارد تحريمه في قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، وتنتفي علة التحريم إذا كان الغرر يسيراً، وفي ذلك قال الإمام النووي: “الأصل أن بيع الغرر باطل..، والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز منه، فأما ما تدعو الحاجة إليه، ولا يمكن الاحتراز منه كأساس الدار، وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر، وذكر أو أنثى، وكامل الأعضاء أو ناقصها، وكشراء الشاة في ضرعها لبن، ونحو ذلك، فهذا يصح بيعه بالإجماع…، وقال العلماء: مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده على ما ذكرناه، وهو أنه إذا دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز منه إلا بمشقة، أو كان الغرر صغيرًا جاز البيع، وإلا فلا”([10]).
وخلاصة المسألة: أن الإعلان عن البضاعة، وإن لم يعتبر بيعًا بالمعنى الفقهي الدقيق، إلا أن وصفَها أو المبالغةَ في وصفها على غير حقيقتها بالقول أو الرسم؛ مما يدفع المشتري إلى شرائها، يُعَدُّ من باب الغرر، فإن كان هذا الغرر يسيرًا -أي أن البضاعة لم تكن رديئة بالمعنى المعروف- فليس من حق المشتري ردها، أما إن كان الغرر فاحشًا -كما لو كانت البضاعة فاسدة، أو كانت على نحو يخالف وصفها مخالفة واضحة- فمن حقه ردها.
والله -تعالى- أعلم.
([1]) بيع الحصاة مثل أن يقول: بعتك من هذا الشيء ما وقعت عليه الحصاة. حديث نَهى رَسولُ اللهِ ﷺ عن بَيْعِ الحَصاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ. أخرجه مسلم، برقم (١٥١٣).
([2]) انظر في ذلك: نيل الأوطار للشوكاني، ج5 ص243-248.
([3]) انظر: المجموع شرح المهذب، ج9 ص257.
([4]) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج9 ص22-23.
([5]) القوانين الفقهية لابن جزي، ص 169-170، ومنح الجليل، ج4 ص487-488، ومواهب الجليل، ج4 ص296، والتاج والإكليل، ج4 ص296.
([6]) بداية المجتهد، ج2 ص148-156، ومقدمات ابن رشد، ج3 ص212، والمدونة الكبرى ج3 ص255.
([7]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ج5 ص163، وحاشية رد المحتار، ج4 ص593، وفتح القدير، ج6 ص335.
([8]) الأم، ج3 ص38، ونهاية المحتاج، ج3 ص422، ومغني المحتاج، ج2 ص20، وقليوبي وعميرة، ج2 ص166.
([9]) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب النهي عن الحلف في البيع، صحيح مسلم بشرح النووي ج11 ص 44.
([10]) انظر: المجموع شرح المهذب ج9 ص258، وانظر-أيضاً-في الغرر اليسير: القوانين الفقهية لابن جزي، ص169، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج9 ص26، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام، ج4 ص113، ومقدمات ابن رشد، ج3 ص209.