ومفاد هذه المسألة سؤال يقول فيه صاحبه: إنه حين أراد شراء سيارة ذهب إلى أحد محلات بيع السيارات المستعملة، فطلب بيعه واحدةً مما هو متوافر في المحل، فقال له صاحب المحل: إن لديه أربع سيارات من نوع واحد، ولون واحد، وإذا أراد شراء إحداها فعليه أن يدفع مبلغ سبعين ألف ريال، فوافق المشتري على ذلك، ودفع له المبلغ، وعند اختياره واحدةً من السيارات الأربع وجد البائع قد عَيَّنَ له واحدةً غيرَها، فرفض المشتري، وطلب تسليمه السيارة التي اختارها، فاختلفا. ويسأل المشتري عن حقه فيما اختاره؟.

حكم من اشترى شيئًا مجهولًا في صفة من صفاته

الجواب: إن من موجبات البيع أن يكون المبيع معلومًا علمًا يقطع المنازعة، وينفي الخلاف، فإن كان مجهولًا في صفة من صفاته فالبيع غير صحيح؛ لما تفضي إليه الجهالة فيه من النزاع والخلاف، وقد مثل الفقهاء لذلك بما لو قال البائع: بعتك ثوبًا من هذه الثياب، فالبيع فاسد؛ لأن الثوب من الثياب مجهولٌ جهالةً مفضيةً إلى المنازعة؛ لتفاحش التفاوت بين ثوب وثوب، فإن عَيَّنَ البائع أحد الثياب، ورضي به المشتري صح البيع؛ لانتفاء المنازعة، فإن قال البائع: سوف أختار له أحد هذه الأثواب، ورضي المشتري بذلك فالبيع صحيح، وإن قال البائع للمشتري: بعتك أحد هذه الأثواب الأربعة، فاختر ما تشاء منها، ورضي المشتري بذلك، فالبيع صحيح، وهذا ما يسمى في المذهب الحنفي بـ”خيار التعيين”.

ومما يفسد العقد في المذهب الحنفي: الجهالة في ذات البيع؛ لإفضائها إلى المنازعة؛ لاختلاف رغبات الناس فيها، فإذا سلم البائع عينًا فمن الجائز أن يطلب المشتري عينًا أجود منها، ويفسده -أيضاً- الجهالة في وصف المبيع، حيث إن الغائب عن المجلس إذا أحضره البائع فمن الجائز أن يقول المشتري: إن هذا ليس عينَ المبيع، بل مثله من جنسه، فيحصل النزاع بسبب عدم الرؤية المفضية إلى الغررِ المنهيِّ عنه، كما أن مما يفسد عقد البيع جهالة الثمن، وجهالة أجل التسليم([1]).

وفي المذهب المالكي: يجب أن يكون المبيع معلوماً؛ وذلك للتحرز من المجهول([2])، فكل شيء مجهول جملة وتفصيلًا لا يصح، كبيع ما في البيت، أو الحانوت، أو ما ورِثه البائع، أو ما وُهِب له، والبائع والمشتري لا يعلمانه، فإن جُهلت الجملة مع علم التفصيل -كبيع صبرة مجهولة القدر بتمامها كل صاع بكذا-فيجوز. ومحل الفساد: إذا جهل أحد المتبايعين التفصيل، إذا علم العالم بجهل الجاهل، وإلا فلا يفسد، والحكم في ذلك حكم بيع الغش والخديعة، فللجاهل من المتبايعين-إذا علم-الخيارُ بين إمضاء البيع ورده([3]).

وفي المذهب الشافعي: يُشترط في المبيع كونه معلوماً، ولكن ليس معنى هذا اشتراط العلم من كل وجه، بل المشترط علم عينه، وقدره، وصفته، وعلى ذلك لا يجوز بيع العين المجهولة، فلو قال البائع للمشتري: بعتك ثوبًا من هذه الأثواب أو من هذين الثوبين أو ما أشبه ذلك، فالبيع باطل. ولم يُجَوِّزْ أصحاب المذهب خيار التعيين (إلا قولًا قديمًا لأحدهم)، فلو قال البائع للمشتري: بعتك هذه الثياب إلا واحدًا منها؛ فالبيع باطل، سواءٌ قال: لك الخيار في التعيين، أم لا([4]).

وفي المذهب الحنبلي: نحوٌ مما ذُكر أعلاه، أي: أنه يُشترط كون المبيع معلومًا للمتبايعينِ، حيث إن جهالة البيع غرر، فيكون منهيًّا عنه، ويحصل العلم بالمبيع برؤية تحْصُلُ بها معرفته([5]).

وينبني على ما سبق أن جهالة المبيع في صفة من صفاته تُبْطلُ البيع؛ لما فيها من الغرر الذي نهى عنه رسول الله -ﷺ-، فعلى هذا لا بد لصحة البيع من رؤية كاملة تحصل بها للمشتري معرفة ما يريد شراءه في نوعه، أو أي صفة من صفاته؛ حسمًا لأي منازعة محتملة بينه وبين البائع.

ويتبين من سؤال السائل أنه اشترى شيئًا مجهولاً، فهو لم يعرف صفات السيارات الأربع، أو قوتها أو ضعفها، وهو لم يعرف مدة استعمالها، ولا المساويء المحتملة فيها، والمفترض أن صفاتها متفاوتة قوةً وضعفاً، والمفترض -أيضاً- أن بعضها أحسن من بعض، فعند الاختيار سوف يطلب أحسنها، وبطبيعة الحال لن يحقق له البائع رغبته، فتحصل المنازعة بينهما، فعندئذ يصبح البيع فاسداً، فيحق للمشتري استرداد ما دفعه للبائع، ما لم يرض بما يعرضه البائع عليه، أو يقبل هذا بتخييره في السيارات الأربع.

والله أعلم.

([1]) انظر: بدائع الصنائع للكاساني، ج5 ص156-163، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، كتاب البيوع، ص160-161.

([2]) القوانين الفقهية، ص163-164.

([3]) منح الجليل شرح على مختصر خليل، لعليش، ج4 ص465-467، وانظر مواهب الجليل للحطاب، ج4 ص276.

([4]) انظر: المجموع شرح المهذب للنووي، ج9 ص286-287، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج3 ص405-406. وإحياء علوم الدين للغزالي، ج2 ص63.

([5]) انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج3 ص163 وما بعدها، والمغني والشرح الكبير، ج4 ص26-27.