ومفاد هذه المسألة سؤال يقول فيه صاحبه: إنه أقام عدة سنوات في بلد غير إسلامي، وكان يعرف وقت دخول شهر رمضان، وما يجب عليه من صيامه باعتباره أحد أركان الإسلام الخمسة، ومع ذلك كان يترك صيامه عمدا، ويعلل ذلك لنفسه بعدد من الأعذار والحجج، إلا أنه بعد أن رجع إلى بلاده أدرك أنه قد ارتكب خطيئة؛ لأنه لم يكن له عذر حقيقي فيما فعل. ويسأل عما يجب عليه؟.

حكم من ترك صيام رمضان لغير عذر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقبل الحديث عن هذه المسألة ينبغي معرفة عظم الخطيئة في ترك صيام شهر رمضان باعتباره ركنا من أركان الإسلام لا يصح إسلام المسلم إلا بصومه مالم يكن له عذر ملجيء؛ فقد أمر الله بصيامه أمرا مقتضاه الإلزام والتكليف فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 183]. ولم يرخص الله في الفطر إلا لمريض أو مسافر ومن في حكمهما، ترخيصا مشروطا على المسافر بالقضاء، وعلى المريض بالكفارة، وفي ذلك قال تعالى:

 

{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، ومن أفطر في غير ذلك، فقد أتى أمرا عظيما، ويذكر عن أبي هريرة رفعه: (من أفطر يوما من رمضان من غير علة ولا مرض لم يقضه صيام الدهر كله وإن صامه)([1])، والمقصود بهذا كما يقول الكاندهلوي «أي لا تحصل به فضيلة رمضان وطهرته وبركته، وليس معناه لو صام الدهر بنية القضاء من يوم رمضان لا يسقط قضاء ذلك اليوم عنه؛ بل الحكم الشرعي فيه أنه لو صام بذلك اليوم يوما آخر بعد رمضان يجزئه، ويسقط عنه ما كان يجب عليه فهذا من باب التغليظ والتشديد»([2]). هذا أحد القولين وهو قول الجمهور، والثاني لا يجزئه وهو قول جمع من أهل العلم([3]).

وينبغي التفريق بين ترك صيام رمضان استحلالا له، وبين تركه تهاونا، فمن ترك صيامه جحودا واستحلالا فقد خرج من الإسلام استدلالا بقول رسول الله ﷺ: (بني الإسلام على خمس شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)([4])، ([5]).

ومن تركه تهاونا فعليه أولا التوبة مما فعل؛ فالتوبة بمثابة عهد جديد يستدبر فيه التائب عن ماض بما فيه من إثم وخطيئة، ويستقبل فيه عهدا يجدد فيه التزامه بأداء ما عليه من تكليف، ولا تصح التوبة إلا بتحقق شروطها الأربعة وهي: ترك المعصية، والشعور والإحساس بالندم عليها، والعزم على عدم العودة إليها، وأن يكون جماع ذلك كله الحياء والخوف من الله.

وقد أخبر الله تعالى عن نفسه أنه يقبل التوبة من المذنب، فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون} [الشورى: 25]، وقال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، كما أخبر رسوله -عليه الصلاة والسلام- أن: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)([6]).

ويجب أن تُتْبع التوبة بالقضاء؛ لأن الصوم حق لله، فإذا لم يؤد المسلم هذا الحق في وقته لزمه أداؤه في وقت آخر، مثله في ذلك مثل الصلاة والزكاة والحج، فإذا فات وقت أي من هذه الفرائض فلا يسقط التكليف بل يجب القضاء.

وفي المذهب الحنفي لا فرق بين ما إذا كان المكلف معذورا بفعله أو غير معذور به؛ لأنه لما وجب القضاء على المعذور، وجب على المقصر من باب أولى؛ لأن المعنى يجمعهما، وهو (الحاجة إلى جبر الفائت) بل إن حاجة غير المعذور أشد. ولا يوجب فقهاء المذهب الفدية على من أخر صوم رمضان حتى دخل رمضان آخر؛ لأن وجوب القضاء لا يتوقت، ولأن الأمر به مطلق عن يقين بعض الأوقات دون بعض فيجري على إطلاقه([7]).

وفي مذهب الإمام مالك أن من أخر صيام شهر رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر صام هذا، فإذا أفطر منه قضى ذلك الأول وأطعم معه فدية هي (مد) لكل يوم، ويستثنى من ذلك كونه مريضا عندما دخل رمضان الآخر عليه، ففي هذه الحال ليس عليه إلا القضاء([8]). وذكر الونشريسي أن ابن لبابة سئل عن الذي فرط في قضاء رمضان إلى سبع سنين فأجاب: «يغرم لكل يوم فرط في قضائه سبعة أمداد بمد النبي ﷺ مع القضاء. وقد قيل إنه ليس عليه إلا غرم مد لكل يوم وإن فرط والأول أحب إلينا والذي عليه جماعة الناس»([9]).

وفي مذهب الإمام الشافعي «.. أن من فرط وهو يمكنه أن يصوم حتى يأتي رمضان آخر، صام رمضان الذي جاء عليه وقضاهن وكفر عن كل يوم بمد حنطة»([10]).

وفي مذهب الإمام أحمد تفريق بين من أخر صيام رمضان بعذر أو بغير عذر، والأصل أنه لا يجوز تأخيره إلى رمضان آخر من غير عذر. فإن كان لعذر فليس عليه إلا القضاء لعموم قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وإن كان لغير عذر فعليه القضاء وإطعام مسكين لكل يوم؛ لأن كثرة التأخير لا يزداد بها الواجب([11]).

وخالف الإمام ابن حزم جمهور العلماء في مسألة القضاء فعنده.. أن من تعمد ذاكرا صومه.. فقد بطل صومه لا يقدر على قضائه إن كان في رمضان أو في نذر معين إلا في تعمد القيء فعليه القضاء..؛ لأنه -كما يرى- لم يأت في فساد الصوم بالتعمد للأكل أو للشرب أو الوطء نص بإيجاب القضاء، وإنما افترض الله تعالى رمضان لا غيره على الصحيح المقيم العاقل البالغ، فإيجاب صيام غيره بدلا منه إيجاب شرع لم يأذن الله تعالى به فهو باطل([12]).

وخلافا للإمام أبي حنيفة والحسن والنخعي -الذين يرون القضاء دون الكفارة- فإن جمهور الفقهاء يرون القضاء والكفارة معا، ولعل هذا هو الصحيح، فالكفارة جزاء ومن ترك صوم رمضان تهاونا فلا أقل من جزائه بتغريمه قليلا من الطعام، يعطيه مسكينا عن كل يوم تهاون فيه عن أداء هذا الركن من الإسلام. ومساواة المتهاون بالصوم مع المريض والمسافر في القضاء فقط لا يتفق مع المقاصد الشرعية؛ فالمريض والمسافر معذوران بفعل العجز والمشقة، والمتهاون غير معذور فما أقل من أن يكون جزاؤه أشد.

وخلاصة المسألة: إن من الإثم والخطيئة ترك صيام شهر رمضان؛ لأن إسلام المسلم لا يصح إلا بأدائه لكونه ركنا من أركان الإسلام الخمسة، لقول رسول الله ﷺ: (بني الإسلام على خمس… وصوم رمضان)، وعلى هذا فمن ترك صيامه استحلالا وجحودا له يعد مرتدا عن الإسلام. أما من تركه تهاونا فعليه أولا التوبة إلى الله مما فعل ولا تصح التوبة إلا بتحقق شروطها الأربعة، وهي: ترك المعصية، والندم عليها، والعزم على عدم العودة إليها، وأن يكون جماع ذلك كله الحياء والخوف من الله. وجمهور الفقهاء يرون القضاء والكفارة على من ترك صيام شهر رمضان. والكفارة إطعام مسكين عن كل يوم من الأيام التي ترك المكلف صيامها، وهذا خلافا للإمام أبي حنيفة الذي يوجب القضاء ولا يوجب الكفارة.

 

وينبني على ذلك أن على السائل التوبة إلى الله تعالى مما فعل، وقضاء ما فاته وإطعام مسكين مدا عن كل يوم فاته.

والله -تعالى- أعلم.

([1]) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الصيام، باب ما إذا جامع في رمضان، فتح الباري، ج4 ص190، وأخرجه أبو داود تعليقا في كتاب الصيام، باب التغليظ في من أفطر عمدا، برقم (396)، وأخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في الإفطار متعمدا، برقم (723)، سنن الترمذي، ج3 ص101.

([2]) بذل المجهود في حل أبي داود للسهارنفوري بشرح محمد بن زكريا الكاندهلوي، ج11 ص228.

([3]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج22 ص18-19.

([4]) وانظر في هذا مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج25 ص265.

([5]) متفق عليه، أخرجه الإمام البخاري في كتاب الإيمان، باب دُعاؤكم إيمانكم، برقم (8)، فتح الباري، ج1 ص64.

([6]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، برقم (4250)، ج2 ص1420، قال السندي: «الحديث ذكره صاحب الزوائد في زوائده وقال: إسناده صحيح، رجاله ثقات، وفي المقاصد الحسنة: رواه ابن ماجة والطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب من طريق أبي عبيدالله عبد الله بن مسعود عن أبيه رفعه ورجاله ثقات، بل حسنه شيخنا، يعني لشواهده، وإلا فأبو عبيدة، جزم غير واحد بأنه لم يسمع من أبيه».

([7]) بدائع الصنائع للإمام الكاساني، ج2 ص103-104، وانظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج2 ص423، واللباب في شرح الكتاب للغنيمي، ج1 ص170، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار للطحطاوي، ج1 ص463، والهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني، ج1 ص127.

([8]) المدونة الكبرى للإمام مالك برواية الإمام سحنون، ج1 ص192، وانظر: شرح منح الجليل لعليش، ج2 ص154-155، والفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني للنفراوي، ج1 ص317، وسراج السالك شرح أسهل المسالك للجعلي، ج1 ص98.

([9]) المعيار المعرب، ج1 ص421-422.

([10]) الأم للإمام الشافعي، ج2 ص103، وهامش الرملي على الفتاوى الكبرى الفقهية للهيتمي، ج2 ص70-71، وانظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج3 ص189، وقليوبي وعميرة، ج2 ص68-69، وبجيرمي على الخطيب، ج2 ص343، ومغني المحتاج للشربيني، ج1 ص439.

([11]) المغني والشرح الكبير للإمام ابن قدامة، ج3 ص81-82، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج2 ص334، والإنصاف للمرداوي، ج3 ص333-334، وانظر شرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج1 ص456-457، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي، ج2 ص610-611، وكتاب الفروع لابن مفلح، ج3 ص92-93، ومطالب أولي النهى، ج2 ص209 -210.

([12]) المحلى بالآثار لابن حزم، ج4 ص302 -327.