ومفاد هذه المسألة سؤال يقول فيه صاحبه: إن له صديقاً أراد الحصول عـلى مساعدة عامة تمنح عادة للذين تتوافر فيهم شروط معينة، وقد طلب منه صديقه أن يشهد معه عن توافر أحد هذه الشروط فيه، ومع أنه يشك في أن هذا الشرط يتوافر في صديقه، فقد شهد معه ابتغاء نفعه، ولاعتقاده أن الشهادة في الأمور العامة أسهل من الشهادة في الحقوق الخاصة، ويسأل عما إذا كان يجوز له أن يفعل مثل ما فعل.

حكم الشهادة الغير مؤكدة بقصد حصوله على منفعة عامة

وتتضح الإجابة على هذا السؤال بما يأتي:

  • أداء الشهادة.
  • صفة الشهادة.

1- أداء الـشـهـادة: إن شأن الشهادة شأن عظيم؛ لما يترتب عليها من الفصل في النزاع، ورد المظالم، وبيان الحقوق، وقد وردت أحكامها في كتاب الله وسنة رسوله محمد -ﷺ-، فقد أمر الله -تعالى- بالإشهاد حرصاً على توثيق الحقوق، ودفع النزاع، فقال -تعالى- في آية الدين: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} [البقرة:282]، كما أمر الشهود بأداء الشهادة إذا ما دعوا إليها، فقال -تعالى-: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} [البقرة:282]، ثم نهى عن كتمانها ممن تحملها، ووصف من كتبها بالاثم، فقال -تعالى-: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283].

ولعظم الشهادة أمر الله عباده أن يؤدوها على أنفسهم، فقال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135]، والمعنى واضح أن المسلم ملتزم بأداء الشهادة مهما كانت أثارها وأضرارها عليه أو على من هو أقرب إليه.

وقد رغب رسول الله -ﷺ- في أداء الشهادة، فقال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟، الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها»([1])، وعظم أمر الاجتراء على شهادة الزور فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر»؟، قلنا: بلی یا رسول الله!، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين»، وكان متكئاً، فجلس، وقال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور»، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت([2]).

والشهادة فرض كفاية في قول جمهور العلماء([3])، فمن دعي إليها فهو مخير بين تحملها وعدمه، فإن تحملها وجب عليه أداؤها إذا دعى إليها.

۲صفة الشهادة: ولعظم الشهـادة عظم الله حملها وتبعاتها، فقال -تعالى-: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} [الإسراء:36]([4]) وقال -تعالى-: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون} [الزخرف:86]، كما عظم رسول الله حملها، فأوجب على من يؤديها أن يكون قد علم بما يشهد به علم يقين يزول معه اللبس، وينفي فيه الشك، فقال -عليه الصلاة والسلام- عندما سئل عنها: «هل ترى الشمس»؟، قال: نعم!، قال: «على مثلها فاشهد أو دع»([5]).

واستدل علماء المذهب الحنفي بهذا الحديث، فقالوا: ينبغي أن يكون تحمل الشهادة بمعاينة المشهود به بنفسه لا بغيره، واستثنوا النكاح والنسب والموت، فأجازوا الشهادة في هذه الأمور بالتسامع؛ لأن مبناها على الاشتهار([6]).

وفي مذهب الإمام مالك: يجوز أداء الشهادة إذا حصل العلم بالمشهود به، والمراد بالعلم الثقة بخبر المخبر.

ولعلماء هذا المذهب أقوال كثيرة في معنى العلم، فمنهم من يرى أن من دعي ليشهد على امرأة لا يعرفها، وشهد عنه رجلان أنها فلانة، فلا يشهد إلا على شهادتهما، ومنهم من يرى أن يشهد عليها؛ لأن النساء لا يعرفن إلا بمثل هذا، ومن وجه آخر تجوز الشهادة بالسماع إذا شاع واشتهر، وكثر عن ثقات أهل عدل([7]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: ليس للشـاهـد أن يشهد إلا بما علم، والعلم من ثلاثة وجوه:

منها: ما عاينه الشاهد، فيشهد بالمعاينة.

ومنها ما سمعه: فيشهد ما أثبت سمعاً من المشهود عليه.

ومنها ما تظاهرت به الأخبار: مما لا يمكن في أكثره العيان، وتثبت معرفته بالقلوب، فيشهد عليه بهذا الوجه، فلو شهد رجل على آخر أنه فعل شيئا، أو أقر به؛ لم يجز إلا أن يجمع أمرين: الأول: أن يثبته بمعاينة، والآخـر: سمعا مع إثبات بـصـر، ولهذا لا تجوز شهادة الأعمى عند الإمام الشافعي إلا إذا أثبت شيئاً معاينة أو معاينة وسمعاً، ثم عمي، فتجوز شهادته([8]).

وفي مذهب الإمام أحمد: لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا بما علمه، ومدرك العلم أمران: الرؤية، والسماع، فالرؤية تختص بالأفعال المرئية كالغصب والسرقة والإتلاف، فيشهد من رأى فلاناً يبيع فلاناً شيئاً، وإن احتمل إقالة البيع.

والسماع على نوعين:

النوع الأول: سماع من المشهود عليه، فيلزم الشاهد أن يشهد به على من سمعه، كمن سمع شخصاً يقر بحق لآخر، ثم أنكره، فيشهد عليه بما أقر به من الحق.

والنوع الثاني من السماع: سماع من جهة الاستفاضة فيما يتعذر علمه غالباً به وبها، (وهي أن يشتهر المشهود به بين الناس، فيتسـامعون به بـإخبار بعضهم لبعض كالنسب)([9]).

هذه بعض أحكام الشهـادة في مذاهب الفقهاء، وأهمها: أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا بما علم، والعلم لا يدرك إلا من الرؤية أو السماع، ولا تحصل الرؤية إلا من خلال المشاهدة الجلية، ولا يحصل السماع إلا من خلال قول المشهود عليه، أو من خلال ما يشتهر من العلم عنه ممـا لا يحصل العلم به إلا عن هذا الطريق، فإذا تـعـرض العلم في نوعيه لشك أو ظن فسدت الشهادة، وحرم الأخـذ بها؛ لما يترتب عليها من الظلم، وضياع الحقوق، والفساد في الأرض.

وأحكام الشهادة واحدة، سواء في الأمور الخاصة أو الأمور العامـة، بل قد تكون الشهادة في هذه الأمور أعظم؛ لمناطها بحقوق الناس كلهم، فما كان لكثيرهم كان أشد في حرمته مما هو لقليلهم.

ولم يتبين من السؤال صفة الشهادة التي شـهـد بها السائل، ولكنها كمـا يبدو- كانت مشـوبة بالشك، فما كان كذلك فسد الاستدلال به، فتكون الشهادة مجردة عن صفتها الشرعية، ويكون هدفها نفع المشهود له؛ ظنًّا أن المال العام أقل في حرمته من المال الخاص، وهذا خطأ ظاهر؛ لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان الذي نهى الله عنه في قوله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [المائدة:2].

وخلاصة المسألة: أن شأن الشهادة شأن عظيم؛ لما فيها من الإعانة على رد المظالم، وبيان أصحاب الحقوق، ودرء النزاع، وقد أوجب الشارع أن يكون مبناها العلم، والعلم لا يدرك إلا من الرؤية والسماع، فإذا تعرض العلم لشك أو ظن فسدت الشهادة، وبطل ما بني عليها، وأحكام الشهادة واحدة في الأمور الخاصة أو العامة، بل هي في الأمور العامة أعظم؛ لمناطها بحقوق الناس كلهم، وعلى هذا يكون الشاهد في المسألة قد خالف الحكم الشرعي في الشهادة، وعليه أن يتوب من ذلك. والله أعلم.

 

([1]) أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب خير الشهود، وأبو داود في الأقضية، باب في الشهادات، وأخرجه الترمذي في كتاب الشهادات، باب ما جاء في الشهداء: أيهم خبره؟، برقم (٢٢٩٥)، سنن الترمذي، ج4 ص٤٧٢.

([2]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، فتح الباري، ج۵ ص ۳۰۹، برقم (٢٦٥٣، ٢٦٥٤).

([3]) المغني والشرح الكبير، ج4 ص450، وشرح منح الجليل، ج8 ص484، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار، ج۳ ص۲۲۸.

([4]) وقال قتادة في معنى ذلك: “لا تقل: رأيت. ولم تر، وسمعت. ولم تسمع، وعلمت. ولم تعلم”. انظر: تفسير ابن كثير، ج۳ ص۳۷.

([5]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الشهادات، باب التحفظ في الشهادة والعلم.ج۱۰، ص١٥٦، وذكره البرهان في كنز العمال، كتاب الشهادات، باب في أحكامها وآدابها، برقم (۱۷۷۸۲)، ج۷ ص ۲۳، ضعف إسناده ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام، (٤٢٠).

([6]) انظر: بدائع الصنائع للكاساني، ج6 ص٢٦٦، وانظر: شرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية، ج۷ ص ٢٨٣-٢٨٤، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار، ج۳ ص۲۲۷، وحاشية رد المحتار على الدر المختار، ج5 ص٤٦٢.

([7]) شرح منح الجليل للشيخ محمد عليش، ج۸ ص ٤٧٣-٤٧٦، وانظر: مواهب الجليل للحطاب، ج6 ص۱۹۱-۱۹۲، والبهجة في شرح التحفة، ج۱ ص۱۳۲، ومختصر خليل، ص٣۰۳-٣٠٤.

([8]) الأم للإمام الشافعي، ج۷ ص۹۰، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج۸ ص316-317، ومغني المحتاج، ج 4 ص ٤٤٥-٤٤٦، وبجيرمي على الخطيب، ج ٤ ص۳۷۲-۳۷۳.

([9]) کشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج6 ص٤٠٧-٤٠٩، وانظر: المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج۱۲ ص۱۹-۲۱، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج 3 ص ٥٣٧ – ٥٣٩، مطالب أولي النهي، ج6 ص٥٩5-٥٩7.