ومفاد هذه المسألة سؤال يقول فيه صاحبه: إنه سبق أن ارتكب ذنبا في شبابه، ولكنه تاب منه توبة نصوحا، وكان له صديق مطلع على ذلك الذنب، وبينما كان مع نفر من معارفه ذكَّره بما مضى منه، وكأنه يقصد التشهير به، والتعرض لذنب تاب منه، وندم عليه. ويسأل عن مدى حق صاحبه في التعرض له بذكر ما مضى من خطئه؟.

حكم من يتتبع أو يتعرض لسوآت غيره

والجواب عن هذا من ثلاثة وجوه:

الأول: أن الأصل في الإسلام تحريم الاعتداء، حيث نهى الله عن ذلك في كتابه العزيز في قوله -تعالى-: {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين} [البقرة:190]، والاعتداء يشمل الفعل المادي كالقتل أو الجراح، كما يشمل كل قول ينتج عنه ضرر للإنسان؛ لأن القول قد يكون أشد من الفعل، فلربما يهون على الإنسان جرح أو ضرب في جسده، ولا يهون عليه كلمة تمس مشاعره، أو تنكأ جراحه، أو تؤثر في نفسه، فكم من كلمة عابرة لم يلق لها صاحبها بالا أدت إلى وبالٍ عليه، وكم من جملة يسيرة في نظر قائلها أدت إلى قتال وحروب.

لقد نظر الإسلام إلى الإنسان على أنه ‏«‏وحدة‏»‏‏ تختلط آلام جسمه بآلام نفسه، وأن أمنه وسِلمه مترتب على سلوكه، وعلى الكيفية التي يتعايش بها مع غيره، ولهذا حرص الإسلام على بناء هذا التعايش من خلال تربية المسلم تربية شرعية تقوم على تحريم الاعتداء في كل صوره، وتحريم الظلم في كل أشكاله، كما تقوم على حق المسلم في عدم الاستهزاء به، أو السخرية منه، أو الهمز أو اللمز له، وقد بين الله ذلك في قوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [الحجرات:11].

الوجه الثاني: أن من أصول الإسلام اجتناب سوء الظن بالإنسان، أو التجسس عليه، أو اغتيابه، أو الارتياب منه بدون دليل، أو نحو ذلك مما يكرهه، أو يسيء إليه. وفي ذلك قال الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].

فالنهي عن اجتناب الظن دعوة إلى التيقن في القول، وعدم التسرع، فمن يتيقن ويتثبت في قوله لن ينال غيره بسوء، والعكس بالعكس، وكثير من الأخطاء التي ترتكب -كالغيبة ونحوها- ناتجة عن الأخذ بالظن، وقد وصف الله الظن بأنه لا يغني من الحق شيئا، فقال -تعالى-: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28]، وقد أكد رسول الله -ﷺ- مساوئ الظن، وقال: «إياكم والظنَّ، فإن الظن أكذب الحديث»([1]).

ويرى الإمام الغزالي: أن حرمة سوء الظن لا تقتصر على ما يُحدِّث به الإنسان غيره بمساوئ الغير، بل تشمل حديث الإنسان نفسه، وإساءته الظن بأخيه، أي: عقد القلب وحكمه على الغير بالسوء، بخلاف الخواطر، وحديث النفس، والشك، فهي معفوة([2]).

والنهي عن الاغتياب دعوة إلى حفظ حق المغتاب في عدم جواز التعرض له في عرضه وأسراره، وخصوصياته، وقد شبهه الله بأكل لحم الميت؛ تأكيدا على شناعته وكراهته، فطالما كان الإنسان بطبعه وعقله لا يستطيع أكل لحم الإنسان الميت؛ لحرمته وبشاعته، فقد وجب عليه ألا يغتابه حيا أو ميتا؛ لوجود الشبه بين هذا وذاك.

والعلة في تحريم الغيبة: أنها تعدٍّ على حرمة الإنسان، وانتقاص من حقه، وجرأة على عرضه، وقد عرفها رسول الله -ﷺ- بقوله: «أتدرون ما الغيبة»؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟، قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته»([3])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «ما كرهت أن تواجه به أخاك فهو غيبة»([4])، فدل هذا على أن الغيبة تشمل الحاضر والغائب، وأن معيارها ذكر ما يكرهه الإنسان، وإن كان ذلك حقا([5]).

قال الإمام النووي: “هي ذكر المرء بما يكره، سواء كان في بدن الشخص، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خلقه، أو ماله، أو والده، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسته، أو غير ذلك فيما يتعلق به ذكر سوء، سواء ذكر باللفظ أو بالرمز أو بالإشارة”([6]).

وقد استثنى عدد من العلماء ست صور لم يعدوها غيبة، وهي: النصيحة([7])، والتجريح والتعديل في الشهود عند الحاكم، والمعلن بالفسوق، وأرباب البدع والتصانيف المضلة، وإذا كان القائل والمقول له عالمين بما وقعت فيه الغيبة، والدعوة عند ولاة الأمور، كقوله: فلان غصب مالي وثلم عرضي([8]).

الوجه الثالث: أن من صفات المسلم السترَ وعدمَ الأذى، فالإسلام دين خلق، ودين محبة، ودين حياء، أمر بستر العورات، ونهى عن كل أنواع الأذى، وبهذا وجب على المسلم أن يتصف بهذه الصفات في سلوكه، وعلاقته مع نفسه ومع غيره، وهذه الصفات مبنية في وجوبها على قاعدة التآخي التي وضعها الله في كتابه العزيز في قوله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].

وصفة التآخي تقتضي المحبة، واجتناب كل ما يفسد روابط العلاقة بين المؤمنين؛ حرصا على سلامة الأمة من الشقاق والنزاع، وتفرق الكلمة، وحين وصف الله المؤمنين بالإخوة وصف من آذاهم بالبهتان والإثم المبين، فقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58].

وقد أمر رسول الله -ﷺ- في عدة مواضع بالستر على المسلم، فقال فيما رواه أبو هريرة: «لا يستر عبدٌ عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة»([9]).

قال القاضي: “يحتمل هذا من وجهين: أحدهما: أن يستر معاصيه وعيوبه عن إذاعتها في أهل الموقف. والثاني: ترك محاسبته عليها، وترك ذكرها. قال: والأول أظهر”([10]).

وقد نهى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في عدة مواضع عن تتبع السوآت، فروي عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أنه قال: خطبنا رسول الله -ﷺ- حتى أسمع العواتق في الخدر، ينادي بأعلى صوته: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورات أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته»([11]).

وقد التزم السلف الصالح بقواعد الإسلام في الستر، وتجنب كل ما يكشف السوآت، أو يتعرض للمسلم في أسراره وعرضه وأسرته، في الوقت الذي كانوا فيه أحرص الناس وأشدهم تمسكا بأحكام الإسلام في أوامره ونواهيه، فقد روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يعس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنى، فتسور عليه، فوجده على معصية، فقال: يا عدو الله! أظننت أن الله يسترك وأنت على معصية؟، فقال: وأنت يا أمير المؤمنين! لا تعجل عليَّ، أن أكون عصيتُ الله واحدة فقد عصيتَ الله في ثلاث، قال الله: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، وقد تجسستَ، وقال: {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189]، وقد تسورت عليَّ، ودخلت عليَّ بغير إذن، وقال الله: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، قال عمر -رضي الله عنه-: فهل عندك من خير إن عفوتُ عنك؟، قال: نعم، فعفا عنه، وخرج، وتركه([12]).

والأحاديث والقصص في هذا المعنى كثيرة.

وخلاصة المسألة: أن قواعد الإسلام واضحة في أن اغتياب المسلم، أو الظن فيه بسوء، أو التعرض له في شخصه أو أسرته أو دينه أو دنياه، أو تتبع سوءاته، أو محاولة الكشف عن ماضيه حرام، وإثم كبير، لا يمحوه إلا التحلل منه، ولا يستثنى من ذلك إلا ما سبقت الإشارة إليه مما اجتهد فيه الفقهاء، وأبانوه.

وينبني على ما سبق أن صديق صاحب السؤال قد أثِم من وجهين: أولهما: أنه اعتدى على عرض صاحبه، وحدث عنه بما يكره، فأصبح آثما إثم الغيبة.

وثانيهما: أنه شهر به، وعيره من ذنب تاب منه، فأصبح آثما بتتبع سوأته في ماضيه، ولا يُسقط عنه هذا الإثم المضاعف إلا عفوُ صاحبه، وتجاوزه عنه. والله أعلم.

([1]) متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، برقم (1660)، ج3 ص190.

([2])  إحياء علوم الدين للغزالي، ج3 ص142.

([3]) أخرجه مسلم في كتاب الأدب، باب تحريم الغيبة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج16 ص142.

([4])  الجامع الصغير للسيوطي، ج2 ص504، ضعفه الألباني في ضعيف الجامع، (٥١٢٩).

([5]) القوانين الفقهية لابن جزي، ص282.

([6]) الأذكار للنووي، ص 336.

([7]) واستدلوا على ذلك بقول رسول الله -ﷺ- لفاطمة بنت قيس حين شاورته لما خطبها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم: «أما معاوية فرجل صعلوك، لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه»، فأبيح هذا لمصلحة النصيحة، بشرط أن تكون الحاجة ماسة إليها، والحديث سبق تخريجه.

([8])   الفروق للإمام القرافي، ج2 ص205-208، وذكر الإمام ابن جزي أنها عشرة، ومنها: الاستعانة على تغيير المنكر، وأن يكون الإنسان بما يعرف عن عينه كالعمش. انظر: القوانين الفقهية ص282.

([9])  أخرجه مسلم، (٢٥٩٠).

([10])  شرح النووي على صحيح مسلم ص143.

([11]) تفسير الدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي، ج7 ص568، والحديث أخرجه أبو داود (٤٨٨٠)، وأحمد (١٩٧٧٦)، وقال الألباني في صحيح أبي داود، (٤٨٨٠): حسن صحيح.

([12])  انظر: تفسير الدر المنثور، ج7 ص568.