ومفاد هذه المسألة: سؤال يقول فيه صاحبه: إنه اشترى أرضًا بمبلغ كبير، فطلب منه صاحبها دفع عربون؛ للدلالة على رغبته ورضاه بالبيع، واشترط أن يكون هذا العربون ربع قيمة الأرض، فوافقه على شرطه، ودفع له المبلغ المطلوب آملًا منه أن يستمر في البيع، ويحسم مبلغ العربون من القيمة، وعندما أعاد حساباته وجد أن من الصعب عليه الاستمرار في عملية البيع لأسباب تخرج عن إرادته، وعندما بَيَّنَ للبائع صعوبة وضعه، ورغبته في التحلل من البيع، أصر البائع على عدم رد العربون بحجة أنه من حقه. ويسأل عما إذا كان يجوز لهذا شرعًا عدم رد العربون، كما يسأل عن القواعد الشرعية في مثل هذه الحال.

مدى جواز فوات العربون على صاحبه

والجواب عن هذا من وجهين:

الوجه الأول: صفة العربون كما ورد النهي عنه، وفي ذلك روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -ﷺ- (نهى عن بيع العربان)([1]).

وعرف الإمام مالك هذا البيع بأنه: أن يتكارى الرجلُ الدابةَ، ثم يقول للذي تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا، أو أكثر من ذلك أو أقلَّ، على أني إن ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتُك هو من كراء الدابة، وإن تركتُ كراءَها فما أعطيتك لك باطل بغير شيء([2]).

والتعامل بهذا النوع من البيع شائع في بعض الأقطار، وغالبًا ما يَنْصَبُّ الاتفاق بين البائع والمشتري على دفع المشتري للعربون دون التصريح بأنه سيكون من حق البائع إذا لم تتم عملية البيع، ولكن ذهن البائع ينصرف إلى أنه لن يرد العربون في حال عدم تمام البيع، والسبب فيه خشيته من عدم التزام المشتري بالبيع، ومن ثم يُجَوِّزُ لنفسه عدم رده بحجة أن المشتري سَبَّبَ له خسارة دون خطأ منه هو، فهو بهذا بمثابة الشرط الجزائي.

الوجه الثاني: ما إذا كان عدم رد العربون يعد من أكل أموال الناس بالباطل المنهيِّ عنه بنص القرآن في قوله -تعالى-: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].

لقد تباينت آراء الفقهاء في جواز هذا البيع من عدمه:

ففي مذهب الإمام مالك: يعد هذا البيع غررًا؛ لأن المشتري شَرَطَ للبائع شيئًا بغير عوض، فأصبح في حكم أكل أموال الناس بالباطل([3]).

وفي المذهب الشافعي: يبطل هذا الشرط إن كان في نفس العقد؛ لما فيه من الفساد والغرر، وأكل المال بالباطل([4]).

وفي مذهب الإمام أحمد: لا بأس به. وممن قال بجوازه: عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، فهو من باب رد شيء مع السلعة إذا كرهها المشتري. واستدل القائلون بجوازه بما رواه زيد بن أسلم أن رسول الله -ﷺ- سُئِلَ عن العربان، فأحله([5])، كما استدلوا بما رُوِيَ فيه كذلك عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رَضِيَ عمرُ، وإلا فله كذا وكذا([6]).

ويتبين من هذا أن جمهور الفقهاء على عدم جواز بيع العربان أو العربون؛ لما فيه من الفساد والغرر؛ استدلالًا بحديث عمرو بن شعيب في نهي رسول الله -ﷺ-عنه، ولكون هذا الحديث جاء من طرق يقوي بعضها بعضًا، واستدلالًا كذلك بضعف الحديث الذي رواه زيد بن أسلم في جوازه([7]).

ولعل الصواب هو ما رآه الجمهور من عدم جواز بيع العربون؛ لما فيه من الغرر، فالأصل ألا يأخذ أحد من أحد شيئًا بغير عوض، فالمشتري لا يدفع الثمن للسلعة إلا لأنه يحصل عليها عوضًا عن ثمنه، والمستأجر لا يدفع الإيجار إلا لكونه ينتفع بالمستأجَر، وحتى المتبرع لا يتبرع إلا وفي نفسه غرض معين، كالإحسان، وابتغاء الأجر، وهكذا.

والقول بحق البائع في العربون يؤدي إلى مفارقات غريبة، فالمشتري قد يتعرض لخسارة لا يستطيع معها الاستمرار في عملية البيع، وقد يحدث أن يُتوفى بعد دفع العربون، فلا يستطيع ورثته الاستمرار في هذه العملية، صحيح أن البائع يأخذ العربون لاحتمال خسارته، أو فوات ربحه، ولكن هذا احتمالٌ، والاحتمال لا يجوز أن يكون عوضًا عن حق واضح هو العربون.

ويحتمل أن ما فعله عمر، واستدل به الإمام أحمد هو حالة “ما إن دفع إليه قبل البيع درهمًا، وقال: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك، ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدَأ، وحسب الدرهم من الثمن”([8])، فهذا بيع صحيح؛ لخلوه من الشرط المفسد.

وبناء على ما سبق فإنه لا يحل لبائع الأرض (في المسألة) أخذ العربون؛ للأدلة المشار إليها؛ لكونه أخذًا بلا عوض.

وخلاصة المسألة: أن الأصل ألا يأخذ أحد من أحد شيئًا بغير عوض، فالمشتري لا يدفع الثمن للسلعة إلا لأنه يحصل عليها عوضًا عن ثمنه، والمستأجر لا يدفع الإيجار إلا لكونه ينتفع بالمأجور، والقول بحق البائع في العربون فيه ضرر للمشتري حين لا يكون في وسعه الاستمرار في عملية البيع، وما يقال عن تعرض البائع لخسارة أو فوات ربح هو مجرد احتمال، والاحتمال لا يجوز أن يكون عوضًا عن حق واضحٍ، هو حق المشتري في العربون.

والله أعلم.

 

([1]) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في العربان، برقم (3502)، سنن أبي داود ج3 ص283، وأخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب بيع العربان برقم، (2192، 2193)، سنن ابن ماجة ج2 ص 12، وأخرجه الإمام أحمد في المسند ج2 ص183، ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، (٣٥٠٢).

([2]) تنوير الحوالك شرح على موطأ الإمام مالك للإمام السيوطي، ج2 ص118، ط دار الكتب العلمية، وأوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك للكاندهلوي، ج11 ص48.

([3]) أوجز المسالك، ج11 ص45، والتاج والإكليل لمختصر خليل للمواق، هامش مواهب الجليل للحطاب، ج4 ص369، وشرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش، ج5 ص46-47، ومواهب الجليل ج4 ص369 -370.

([4]) المجموع شرح المهذب، ج9 ص334-335، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج3 ص476-477، ومغني المحتاج، ج2 ص39، وقليوبي وعميرة، ج2 ص185-186.

([5]) أوجز المسالك، ج11 ص45.

([6]) المغني والشرح الكبير، ج4 ص289، وانظر الإنصاف، ج4 ص357-358، وكشاف القناع، ج3 ص195، وشرح منتهى الإرادات، ج2 ص165، ومطالب أولي النهى، ج3 ص77-78.

([7]) أوجز المسالك، ج11 ص45.

([8]) المغني والشرح الكبير، ج4 ص289.