ومفاد هذه المسألة سؤال يقول فيه السائل: إنه كان في الغربة في بلد غير إسلامي، وقد عرضت له مسألة تتعلق بدينه، فسأل أحد زملائه ممن يعتقد معرفته بهذه المسألة، فقال له: استفت قلبك، وارجع إلى عقلك فيما عرض لك، فما وافقه فهو الحق، وما لا فلا.

حكم رجوع المكلف إلى العقل إذا عرضت له مسألة شرعية

والجواب عن هذا يتطلب تفصيلًا واسعًا لا يتسع له المقام، وسنقتصر منه على وجهين مجملين:

الأول: العقل مناط التكليف:

إن الله -سبحانه وتعالى- حين كلف عباده بأوامره، ونهاهم عن نواهيه جعل لهم من الأفهام والعقول والحواس ما يدركون به الحقائق في الوجود، فيميزون بين الحسن لحسنه، والسيئ لسوئه، وفي كل أمر يبين الله فيه عظمة الخلق، أو يخاطب فيه عباده بأمر أو نهي يبين أن ذلك لمن “يعقلون” و”يتفكرون” و”يتذكرون”، وكل هذه الصفات تعني قدرة المخاطبين على الإدراك والفهم، قال-تعالى-: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون} [النحل:12]، فهذه المسخرات لنفع الإنسان وخدمة وجوده آيات كبرى، ودلالات بينات، لا يدرك قدرة خالقها ومسخرها إلا العقلاء، والمتفكرون من عباده.

وقد تحدث الإمام ابن القيم عن دور العقل في الموازنة بين الحسن والسيئ والجميل والقبيح، فقال: “اللذة المحرمة ممزوجة بالقبح حال تناولها، مثمرة للألم بعد انقضائها، فإذا اشتدت الداعية منك إليها ففكر في انقطاعها، وبقاء قبحها وألمها، ثم وازن بين الأمرين، وانظر ما بينهما من التفاوت، والتعب بالطاعة ممزوج بالحسن، مثمر للذة والراحة، فإذا ثقلت على النفس ففكر في انقطاع تعبها، وبقاء حسنها ولذتها وسرورها، ووازن بين الأمرين، وآثِرْ بالراجح على المرجوح، فإن تألمت بالسبب فانظر إلى ما في السبب من الفرحة والسرور واللذة يهن عليك مقاساته، وإن تأثرت بترك اللذة المحرمة فانظر إلى الألم الذي يعقبه، ووازن بين الألمين، وخاصية العقل تحصي أعظم المنفعتين بتفويت أدناهما، واحتمال أصغر الألمين لدفع أعلاهما.

وهذا يحتاج إلى علم الأسباب ومقتضياتها، وإلى عقل يختار به الأولى والأنفع له منها، فمن وفُر قسمه من العقل والحلم اختار الأفضل، وآثَرَهُ، ومن نقص حظه منهما أو من أحدهما اختار خلافه، ومن فكر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحدًا منهما إلا بمشقة، فليتحمل المشقة لخيرهما وأبقاهما”([1]).

فالعقل ميزان للعمل، فإذا كان سليمًا كان ما ينتج عنه سليمًا، والعكس بالعكس، وتدرك سلامته من وجهين:

أولهما: كونه صحيحًا في ذاته، يُدْرِكُ به صاحبه الظواهر والمحسوسات، وتنطبق عليه صفة العقلاء، فإذا لم يكن كذلك ارتفعت عنه التكاليف؛ لقول رسول الله -ﷺ-: «رفع القلم عن ثلاثة:… المجنون حتى يفيق»([2]).

وثاني الوجهين: كونه صحيحًا من وجه عمله، أي: كونه صحيحًا في سلوكه، فإن لم يكن كذلك كان الجزاء في حقه أشد؛ لكونه مدركًا لما يعمل.

فالقاتل العامد -مثلًا- يعتبر عاقلًا مدركًا؛ لأنه يعرف حق غيره في الحياة مثل معرفته لحقه هو فيها، ويعرف حق غيره في عدم الاعتداء عليه كما يعرف حقه هو في عدم الاعتداء عليه، فلهذا كان جزاؤه أن يُفْعل به مثلُ ما فعل بغيره، إضافة إلى ما سيناله من عقوبة في الآخرة والأشيمط الزاني أشد جزاء ممن لم يبلغ هذه المرحلة من العمر، وذلك لأن عقله في مرحلة أحسن ممن هو أصغر منه، فحين أمهله الله إلى تلك المرحلة من عمره كان عليه أن يكون سليمًا في سلوكه، مدركًا لتصرفه، مستجيبًا لقول الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [الأحقاف:15]، وليس للعقل الصحيح من عذر في سوء سلوكه؛ لأنه تلقى العلم بطريق الرسالة، فوجب عليه احترام ما جاء به كتاب الله على لسان نبيه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم} [التوبة: 128].

الوجه الثاني: العقل لا ينشيء التكليف:

التكاليف الشرعية حقوق لله -تعالى-، أوجب الله على المكلفين أداءها على النحو الذي بينه أو بينه رسوله لهم، ومناط هذه التكاليف “الإلزام”، وليس “الخيار”، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فالتكاليف في العبادات محكومة بالبيان الشرعي لها، فليس لأحد أن يجتهد فيها، فالصلاة والزكاة والصوم والحج فرائض، لا يحق لأحد أن يزيد فيها أو ينقص، والتكاليف في المعاملات محكومة -أيضًا- بالبيان الشرعي لها، فليس لأحد أن يجتهد فيها، فيزيد أو ينقص، فالربا والغش والظلم أمور محرمة، لا يحق لأحد أن يقول فيها برأيه، فيُحِل ما حرم الله، أو يُحرم ما أحل الله.

هذا فيما يتعلق بحقوق الله، أما ما يتعلق بحقوق المُكلفِين فلهم الخيار مما هو من الأمور والمسائل الدنيوية كالأكل والشرب والنوم والسفر والتجارة ونحو ذلك، ولكن هذه المسائل محكومة -أيضًا- بالأوامر والنواهي الشرعية، فالأكل والشرب ينبغي أن يكون من كسب حلال، وأن يكون بدون إسراف، والسفر ينبغي أن يكون لطاعة، وليس لمعصية، والتجارة ينبغي أن تكون خالصة من المحرمات، وهكذا فإن كل أمر أو تصرف يفعله المسلم ينبغي أن يكون ملتزمًا بـ”الأوامر والنواهي”، وليس لتوجيه العقل.

وقد أورد الإمام القرافي في هذه المسألة “… أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما عينه الله وشرعه في البيع، ومن أجر وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله في الإجارة…، ومن صلى وجب عليه أن يتعلم حكم الله -تعالى- في تلك الصلاة، وكذلك الطهارة وجميع الأقوال والأعمال، فمن تعلم وعمل بمقتضى ما علم فقد أطاع الله -تعالى- طاعتين، ومن لم يعلم فقد عصى الله معصيتين، ومن علم، ولم يعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله -تعالى-طاعة، وعصاه معصية”([3]).

إذًا فالعقل لا ينشئ التكليف، ولكنه يجتهد فيما أبيح له فيه الاجتهاد، فيُنزل -مثلًا-حكم مسألة لم يرد فيها نص على حكم مسألة ورد فيها النص لجامع العلة بينهما، وهو ما يسمى في علم أصول الفقه بـ”الاستدلال بالعقل”، فمثلًا ورد النص في تحريم ربا الفضل وربا النسيئة المعروفين في الجاهلية، فيقاس على ذلك تحريم كل تعامل تنطبق عليه صفة أحد هذين الربوين، وورد النص بتحريم الخمر لمخامرته العقل، فيقاس على ذلك كل مادة تتوافر فيها هذه الصفة كالحشيش وأنواع المخدرات، وهكذا.

هذا هو اجتهاد العقل، ولكن ليس كل عقل يجوز له ذلك، فللاجتهاد شروطه وضوابطه وأصوله وأصحابه، ولو كان الاجتهاد لكل إنسان لفسدت الأرض؛ لأن الآراء تتعدد، والعقول لا تتفق، والأفهام لا تتوافق، فلكل عقل فهمه ومشربه، ولكل فهم مقاييسه وتصوراته، ولو أُخِذ بكل رأي في الدين، وبكل اجتهاد فيه لأصبح محكومًا بالهوى والشهوات، وهو ما حرمه الله أشد التحريم بقوله -تعالى-: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ} [الجاثية: 23].

وخلاصة الجواب عن المسألة: أن العقل لا ينشئ التكاليف الشرعية، ودوره محصور في فهمها، والقول بالرجوع إليه فيما يعرض للإنسان من أمور دينه خطأ فادح، وقول بغير علم، وتجرؤ على أحكام الله، ومن عمل بذلك فقد حول دينه إلى هوى وضلال، وقد حرم الله ذلك أشد التحريم في قوله -تعالى-: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب} [ص:26].

ولا ريب في أن على المكلف أن يعلم حكم الله في كل فعل أو عمل يقوم به، فإن لم يقدر على ذلك وجب عليه أن يسأل من يعلم أحكام الله؛ امتثالًا لقوله -تعالى-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} النحل:43]. والله أعلم.

 

([1]) الفوائد للإمام ابن قيم الجوزية، ص210.

([2]) ونص الحديث: عن عائشة عن النبي-ﷺ-قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق»، أخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، ج6 ص156، وأخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، برقم (1423)، ج4 ص24، وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا، برقم (4402) ج4 ص140-141.

([3]) الفروق للقرافي، ج2 ص14-15.