ومفاد هذه المسألة سؤال يقول فيه السائل أن البعض من المسلمين يعتقد بأنه لابد للمسلم من قضاء العمرة قبل أدائه الحج، وذلك لوجوبها عليه مرة في العمر على الأقل، وأن البعض الآخر يشدد في الوقت الذي تُقْضى فيه فيوجب أداءها قبل الحج ويرى عدم صحتها إذا تأخر أداؤها بعد الحج، وقد يعتقد عدم صحة الحج في هذه الحالة؟.

هل العمرة واجبة وهل يجب أداءها قبل الحج

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه أجمعين، وبعد،،

فالجواب على هذه المسألة من وجهين: الوجه الأول: وجوبها، وبهذا قال جمع من الصحابة منهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب -رضوان الله عليهم-، كما قال بوجوبها عدد من الفقهاء منهم بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي والإمام أحمد وعطاء والأوزاعي([1])؛ استدلالًا بقول الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [البقرة:196]؛ واستدلالًا بما رواه ابن عمر عن أبيه قال: دخل أعرابي حسن الوجه أبيض الثياب على رسول الله ﷺ فقال: ما الإسلام يا رسول الله؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة)؛ واستدلالًا أيضًا بأن رسول الله ﷺ اعتمر قبل أن يحج، وما رواه عنه زيد بن ثابت أنه قال: (إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت)([2]). وللإمام الشافعي تأكيد في القول بالوجوب حيث تأول قول الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} بأنه يحتمل: ‏«‏أن يكون فرضها معًا وفرضه إذا كان في موضع واحد يثبت ثبوته في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}، ثم قال: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} فذكرها مرة مع الصلاة وأفرد الصلاة مرة أخرى دونها فلم يمنع ذلك الزكاة أن تثبت.. فظاهر القرآن أولى إذا لم يكن دلالة على أنه باطن دون ظاهر‏»‏‏([3]).

الوجه الثاني: أن العمرة ليست بواجبة، وممن قال بهذا عبدالله ابن مسعود -رضي الله عنه- والإمام مالك والإمام أبو حنيفة وأبو ثور وداود وبعض أصحاب الإمام الشافعي([4])، واستدل من قال بعدم الوجوب بأن الله تعالى فرض الحج في كتابه في قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]. وإطلاق اسم الحج على هذا النحو مقصور عليه حصرًا، ولا يقع على العمرة، ومن قال بغير ذلك فقد زاد على النص، وهذا لا يجوز إلا بدليل([5])، كما استدل من قال بعدم الوجوب بما رواه جابر أن النبي ﷺ سئل عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: (لا، وأن تعتمر خير لك)([6]).

كما استدل أصحاب هذا الرأي بحديث الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله ﷺ يسأله عن الإسلام فبينه له بقوله: (أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا) قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه… إلخ([7]).

ولما لم يذكر فيه العمرة فقد دل هذا على عدم وجوبها.

ومما سبق يتبين وجود تباين بين النقول في مدى وجوب العمرة من عدمه، ولعل الراجح -والله أعلم- أنها سنة واجبة كالوتر لا ينبغي تركها، كما قال بذلك الإمام مالك([8]).

وذلك للدلالتين التاليتين: أولهما: أن الله سبحانه وتعالى بين العبادات الأساسية بأحكام بينات كما هو الحال في الصلاة والزكاة والصوم، كما بين فريضة الحج بحكم واضح مشروط بالاستطاعة في قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، وبين أداءه في مكان معلوم في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين} [آل عمران:96]، إلى قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]، كما بين أداءه في وقت معلوم في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، فهو بهذا لازم القضاء من الحي، ولازم القضاء عن الميت من أهله أو أصدقائه، وهو بهذا أيضًا لازم التعجيل به استجابة لقول رسول الله ﷺ: (من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة)([9]).

الدلالة الثانية: أنه لم يرد عن رسول الله ﷺ -كما يبدو- رواية صحيحة تدل على أن العمرة واجبة فالحديث الذي ورد في الصحيحين بأن الإسلام بني على خمس هي: الشهادتان والصلاة والزكاة والحج، وحديث الأعرابي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبيانه له أحكام الإسلام يدلان على أن العمرة ليست بواجبة وإنما هي من السنن التي لم يرخص لأحد بتركها، مما يليق بالمسلم أداؤها ابتغاء الأجر والمثوبة من الله عز وجل.

أما الاستدلال بوجوبها لقول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فيرى القائلون بعدم الوجوب أنه لا دلالة في هذه الآية الكريمة على وجوبها؛ لأنه: ‏«‏قرئت برفع العمرة، والعمرة لله، وأنه كلام تام بنفسه غير معطوف على الأمر بالحج أخبر الله تعالى أن العمرة له ردًا لزعم الكفرة؛ لأنهم كانوا يجعلون العمرة للأصنام على ما كانت عبادتهم من الإشراك‏»([10]).

وخلاصة المسألة: أن العمرة ليست واجبة بل هي سنة من السنن الهامة في حياة المسلم لم يرخص أحد بتركها، مما يليق بالمسلم أداؤها لتكون في ميزان أعماله يوم تعرض الأعمال على الله عز وجل، ويجد المسلم ما عمله حاضرًا يُجْزى عليه، أما أداؤها ففي أي وقت من السنة ولكن أداءها في بعض الأوقات آكد للمثوبة وزيادة الأجر كما هو الحال في رمضان أو عشر ذي الحجة.

والله أعلم.

 

([1]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام ابن رشد، ج1 ص222-223، والأم للإمام الشافعي، ج2 ص132، وبدائع الصنائع للكاساني، ج2 ص226، والمغني والشرح الكبير للإمام ابن قدامة، ج3 ص160.

([2]) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب المناسك برقم (1730/122)، ج1 ص643، وقال: والصحيح عن زيد بن ثابت قوله، أي موقوف على زيد بن ثابت، وأخرجه البرهان فوري في كنز العمال، ج5 ص115، قال ابن حجر العسقلاني في الدراية تخريج أحاديث الهداية، (٢/٤٧): إسناده ضعيف، والمحفوظ عن زيد بن ثابت موقوف أخرجه البيهقي بإسناد صحيح.

([3]) الأم، ج2 ص132.

([4]) بداية المجتهد، ج1 ص222-223، والأم، ج2 ص132، وبدائع الصنائع، ج2 ص226، والمغني والشرح الكبير، ج3 ص160.

([5]) بدائع الصنائع، ج2 ص226.

([6]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج3 ص316، ضعفه شعيب الأرنؤوط في تخريج سنن الدارقطني، (٢٧٢٤).

([7]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تعريف الإسلام والإيمان، صحيح مسلم بشرح النووي، ج1 ص159-160.

([8]) شرح منح الجليل للشيخ عليش، ج2 ص186.

([9]) أخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الخروج إلى الحج، برقم (2883)، سنن ابن ماجه، ج2 ص962، حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢٣٤٩).

([10]) بدائع الصنائع، ج2 ص226.