ومفاد هذه المسألة سؤال يقول فيه الأخ السائل إنه رأى صبيًا يؤم في جزء من المسجد رجالًا بالغين يقضون صلاة الفرض بعد أن فاتتهم مع الإمام الراتب، وقد نَبّه السَّائل الإمام أن إمامة الصبي للبالغين لا تجوز في فرض. فرد الإمام بما يفيد أن صلاة الصبي جائزة وليس على المأمومين معه من حرج واستدل ببعض الأقوال. ويسأل الأخ السائل عن الحكم في ذلك؟

حكم إمامة الصبي للبالغين

والجواب على هذا: أن أهم ما ورد في إمامة الصبي حديث عمرو ابن سلمة الجرمي ومفاده قوله أنه: (لما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبادر أبي وقومي بإسلامهم فلما قَدِمَ قال: جئتكم من عند النبي ﷺ حقًا، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا. فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنًا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين.([1]). وقد ذكر الإمام الشوكاني أن عمرو بن سلمة قد اختلف في صحبته، وقال في التهذيب لم يثبت له سماع من النبي ﷺ. ومن جملة ما أجيب عن هذا الحديث ماروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يُضَعِفُ أمر عمرو بن سلمة المذكور، قال: لا أدري من أي شيء هذا. وقيل إنه صحابي صغير، ورُويَ ما يدل على أنه وَفِدَ على النبي ﷺ([2]).

وقد تعرض الفقهاء في جملة من الأقوال لإمامة الصبي، وهل تصح في الفرض أو تكون في النفل أو فيهما معًا؟

ففي المذهب الحنفي: لا يجوز للرجال أن يقتدوا به في فرض؛ لأنه متنفل، فلا يجوز اقتداء المفترض به. وقد جَوَّزَهُ في التراويح والسنن المطلقة مشائخ (بلخ) ولم يجوزه مشائخ ما وراء النهر، ومنهم من حَقَّقَ الخلاف في النفل المطلق، والمختار عدم جواز إمامته في الصلوات كلها؛ لأن نفل الصبي دون نفل البالغ حيث لا يلزمه القضاء بالإفساد بالإجماع، ولا يبني القوي على الضعيف([3]).

وعند الإمام مالك: لا يؤم الصبي في النافلة لا الرجال ولا النساء([4]). وفي المذهب لا تصح صلاة الصبي في الفرض، وبغيره تصح وإن لم تُجْزِئ لكن إمامته لمثله جائزة([5]). وقد تَرَخَّصَ الإمام الشافعي في إمامة الصبي فقال: (إذا أم الغلام الذي لم يبلغ الذي يعقل الصلاة ويقرأ، الرجال البالغين فإذا أقام الصلاة أجزأتهم إمامته والاختيار أن لا يؤم إلا بالغ..([6]).

وفي المذهب الشافعي: البالغ أولى من الصبِّي وإن كان الصبي أقرأ أو أفقه لصحة الاقتداء به بالإجماع بخلاف الصبي([7]).

وقد نص الإمام أحمد: على أنه لا يصح ائتمام البالغ بالصبي في الفرض.. وفي المذهب لا تصح إمامته في الفرض؛ لأن الإمامة حال كمال، والصبي ليس من أهل الكمال. فلا يؤم الرجال؛ ولأنه لا يؤمَن منه الإخلال بشرط من شرائط الصلاة، أو القراءة حال الإسرار. والإمام ضَامِنٌ والصبي ليس من أهل الضمان، وفي صلاته في النفل روايتان إحداهما لا تجوز، والثاني تجوز أما صلاته بمثله من الصبية فتصح([8]).

ويتبين مما ذكر أن حديث عمرو بن سلمة الجرمي محل قول، كما نص عليه الإمام أحمد، وعلى فرض صحته فقد أمَّ قومه لكونهم أعراب حديثي عهد بالإسلام، وهو أقرؤهم لكتاب الله فكان حكم صلاته بهم حكم صلاة ضرورة لا يعني الإطلاق في جواز إمامة الصبي للبالغين. كما تبين مما ذكر أن جمعًا من الفقهاء -رحمهم الله- يرون عدم صحة ائتمام الصبي بالبالغين في الفرض لكون الإمامة حال كمال وضمان، والصبي ليس من أهل الكمال والضمان. ومن هؤلاء الفقهاء عبد الله بن عباس، وابن مسعود، والأئمة أبو حنيفة، ومالك، وعطاء، ومجاهد، والشعبي، والأوزاعي. وقد ترخص فيها الإمام الشافعي وابن المنذر والحسن أما إمامة الصبي في النفل وإمامته لصبيان مثله فتصح.

وخلاصة المسألة: أن جمعًا كبيرًا من الفقهاء يرحمهم الله يرون عدم صحة إمامة الصبي بالبالغين في الفرض؛ لكون الإمامة حال كمال وضمان، وهو ليس من أهل الكمال والضمان. وعلى هذا فلا ينبغي أن يؤم البالغين في الفرض، ويُتَرَخَّصُ في إمامته في النفل إذا لم يوجد من هو أقرأ منه، وتجوز إمامته مطلقًا لصبيان مثله. والله أعلم.

 

([1]) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، صحيح البخاري، ج5 ص96.

([2]) انظر: نيل الأوطار، ج3 ص202-203، والمغني والشرح الكبير، ج2 ص54

([3]) انظر شرح فتح القدير للإمام ابن الهمام ومعه شرح العناية لبابرتي وحاشية سعدي جلبي وتكملة الشرح لقاضي زاده، ج1 ص357-358، وانظر بدائع الصنائع، ج1 ص157.

([4]) انظر المدونة الكبرى ومقدمات ابن رشد، ج1 ص84

([5]) انظر منح الجليل شرح على مختصر خليل لعليش، ج1 ص361-371.

([6]) انظر الأم، ج1 ص166.

([7]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج2 ص173-174

([8]) المغني والشرح الكبير، ج2 ص54-55، وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج1 ص479-480.