والجواب عن هذا يتعلق بمسألة الغبن في البيع، والحكم الشرعي فيه، ولهذه المسألة ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: الغبن في حالة الجهل بقيمة المبيع في السوق، وهذا البيع حرام إذا كان مما يخالَفُ المعتاد فيه، ويحق معه للمشتري أو للبائع الخيار بين الفسخ أو الإمضاء، وقد ورد أن النبي -ﷺ- قال: (غبن المسترسل ربا أو حرام)([1])، كما ورد أنه -عليه الصلاة والسلام- نهى عن تلقي السلع حتى يهبط بها الأسواق([2])، وأثبت للبائع الخيار إذا عرف حال السوق، والعلة في هذا: أن البائع يجهل قيمة البضائع فيه، وأن الابتياع منه خارجه فيه تغرير به، وتدليس عليه.
الوجه الثاني: الغبن في حال عدم الجهل بقيمة المبيع، ومثال ذلك: ما لو كان يعرف أن ثمن البضاعة التي اشتراها أقل في السوق مما اشتراها به، فهل يحق له الرد فيما بعد بحجة الغبن؟.
في المذهب المالكي: قول بعدم جواز الرد إذا كان المشتري أو البائع من غير أهل السفه، ويُستدل على هذا بأن الظلم الذي ورد النص عليه هو غبن “المسترسل”، فإذا لم يكن البائع أو المشتري مسترسلًا فلا ظلم حينئذ([3]).
وفي المذهب الحنبلي: لا خيار لغير الجاهل؛ لأنه دخل على بصيرة بالغبن، فهو كالعالم بالغبن، ومثله من استعجل، ولم يتثبت([4]).
الوجه الثالث: الغبن غير المعتاد إذا كان الغبن مما لا يتغابن الناس بمثله، فيلزم البيع، وهذا هو المشهور في مذهب الإمام مالك، أما إن كان مما يتغابن الناس فيه فلا يلزم البيع([5]).
وقد قدر بعض العلماء هذا الغبن بالثلث، وبعضهم قدره بالسدس، وبعضهم قال: يجب الرجوع في ذلك إلى عادة الناس([6])، ويرى الغزالي عدم وجوب الخيار حتى لو زاد الغبن على الثلث، ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن، وقد دلل على ذلك بما كان يفعله بعض السلف، ومنهم محمد بن المنكدر، فقد كان له شقق بعضها بخمسة، وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته شقة من الخمسيات بعشرة، فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابيَّ المشتريَ طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط، فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال: يا هذا! قد رضيتُ، فقال: وإن رضيتَ فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا، وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، فرد عليه خمسة، وانصرف الأعرابي يسأل ويقول: من هذا الشيخ؟، فقيل له: هذا محمد بن المنكدر، فقال: لا إله إلا الله([7]).
وخلاصة الجواب عن السؤال: إنه إذا كان مشتري الآلة يجهل قيمتها في السوق، وكان الغبن فيها يزيد عن الحد المعتاد -وهو الثلث- حق له الخيار في رد الآلة إلى البائع، أو قبول ما ينقصه من ثمنها إلى الحد المعتاد في السوق.
أما إذا كان المشتري يعرف أن ثمنها في السوق أقل من ثمنها الذي اشتراها به، وأقدم على شرائها، إما لحاجته العاجلة، أو لعدم اهتمامه بزيادة الثمن، فلا يحق له الرد حتى وإن كان الغبن يزيد عن الثلث، أو عن المعتاد في السوق.
ومع الحكم الشرعي في الغبن المنوه عنه أعلاه فإن المسألة تدخل -أيضًا- في إطار الأخلاق، وما يجب أن يتحلى به المسلم من سلوك قويم في بيعه وشرائه، ويرى الإمام ابن تيمية أن من يغبن الناس يستحق العقوبة، ويمنع من الجلوس في السوق حتى يلتزم طاعة الله ورسوله، وإذا تاب الغابن الظالم، ولم يمكنه أن يرد إلى المظلومين حقوقهم فليتصدق بمقدار ما ظلمهم به وغبنهم([8]).
والله أعلم.
([1]) أورده البرهان فوري في كنز العمال، ج4 ص75، والمسترسل هو: من يجهل قيمة المبيع، أو هو الذي لا يحسن أن يماكس، فكأنه استرسل إلى البائع، فأخذ ما أعطاه من غير مماكسة، ولا معرفة بغبنه، انظر: المغني والشرح الكبير، ج4 ص79.
([2]) السنن الكبرى للبيهقي، ج5 ص347، قال أحمد شاكر في تخريج المسند، (٨/٣٨): إسناده صحيح، وأخرجه البخاري (٢١٦٥) باختلاف يسير، ومسلم (١٥١٧) بلفظ: “حتى تبلغ الأسواق”.
([3]) شرح منح الجليل، ج5 ص217-219.
([4]) المغني والشرح الكبير، ج4 ص79.
([5]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج2 ص168.
([6]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ج29 ص360.