والسؤال هو عن مدى حق المستشفى في إفشاء المعلومات والأسرار الخاصة بالمرضى الذين يتعالجون فيه؟.
والجواب على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن طبيعة النفس البشرية تميل إلى كتمان أسرارها، فالإنسان بطبعه وتكوينه يريد ألا يظهر بمظهر فيه ضعف، وبالتالي لا يريد أحدًا يعرف عن مظان هذا الضعف، ولهذا يتحامل على نفسه رغم وطأة ما في داخله، فيظهر أمام غيره وكأنه قوي، ويحاول أن يجعل من ضعفه قوة، ومن عجزه نشاطًا، ومن حزنه فرحًا، ومن تعاسته سعادة.
والمرض أصعب ضعف يتعرض له؛ لإحساسه أنه قد يُؤْذِنُ بنهايته، والرغبة في الحياة والتعلق بها غريزة متأصلة في النفس البشرية، ومن هنا يتحامل الإنسان على نفسه ما استطاع، فلا يجلس في البيت، أو يذهب إلى المستشفى إلا عندما يستنفد طاقته في التحامل على نفسه، ومن هذا الشعور والإحساس بكره المرض يكره الذهاب إلى الطبيب خوفًا من مفاجأته بعلة لم يكن يفكر فيها، أو خشيته من فحوص لا يدري نتائجها.
ومن المرضى من لا يصارح الطبيب بكل شكواه، وقد حدثني بعض الأطباء أنه يمكث مع بعض المرضى وقتًا طويلًا لاستدراجهم إلى الإفصاح عن كل مشكلاتهم وشكواهم؛ لأنهم لا يبدون إلا بعضًا منها أثناء سؤالهم.
وكما أن الإنسان يحاول إخفاء أسراره ومشكلاته فإنه بالتأكيد يمقت أن يتحدث أحد عن سِرّ يعرفه عنه، بل إنه يرى في ذلك اعتداء عليه، وقد ينتقم ممن قام به.
هذه هي فطرة الإنسان، والإسلام دين الفطرة، ولهذا ورد في كتاب الله العزيز النهي عن خيانة الأمانة، قال الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون}([1]).
والمقصود بذلك حفظها، وعدم خيانتها، سواء ما يتعلق منها بحق الله وحق رسوله، أو ما يتعلق منها بعلاقة المسلم بالمسلم، وما يجب أن تكون عليه هذه العلاقة من المحبة، وعدم الأذى، كما ورد في سنة رسول الله -ﷺ- أن من أوصاف المنافق خيانة الأمانة، فقال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»([2]).
كما ورد في كتاب الله العزيز النهي عن الظن، والتجسس، والاغتياب؛ لما فيهما من الأذى، وكشف الأسرار، قال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيم}([3]).
كما ورد في سنة رسول الله -ﷺ- الأمر بستر العورة، فقال: «من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته»([4])، كما ورد فيها النهي عن التجسس في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا تحسسوا، ولا تجسسوا»([5])، والمقصود بالتجسس التطلع إلى الأخبار عن المسلم، والتحسس: مراقبته ومتابعته بالعين، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة»([6])، وقال: «إذا حدث الرجل بحديث، ثم التفت، فهو أمانة»([7])، وقال: «المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق»([8]).
وقد قال الإمام الغزالي: “إن من واجب المسلم على المسلم.. أن يسكت عن إفشاء سره الذي استودعه، وله أن ينكره وإن كان كاذبًا، فليس الصدق واجبًا في كل مقام؛ فإنه كما يجوز للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره وإن احتاج إلى الكذب، فله أن يفعل في حق أخيه، فإن أخاه نازل منزلته، وهما كشخص واحد، لا يختلفان إلا بالبدن، هذه حقيقة الأخوة، وكذلك لا يكون بالعمل بين يديه مرائيًا وخارجًا عن أعمال السر إلى أعمال العلانية، فإن معرفة أخيه بعمله كمعرفته بنفسه من غير خرق”([9]).
وقال -أيضًا-: “إن نبي الله عيسى قال للحواريين: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائمًا وقد كشف الريح ثوبه عنه؟. قالوا: نستره ونغطيه، قال: بل تكشفون عورته. قالوا: سبحان الله! من يفعل هذا؟. فقال: أحدكم يسمع بالكلمة في أخيه، فيزيد عليها، ويشيعها بأعظم منها”([10]).
ففي هذه الأحاديث والأقوال تأكيد على أن من واجب المسلم دينًا وخُلُقًا-بل وقضاء-عدم كشف أسرار أخيه؛ لما في ذلك من الاعتداء عليه، وإيذائه، والإضرار به.
الوجه الثاني: العلاقة بين المستشفى والمريض: هذه العلاقة محكومة بعقد، وليس من اللازم أن يكون هذا العقد مكتوبًا في شكل معين، فمجيء المريض لطلب العلاج، وقبول المستشفى لعلاجه، يعتبر عقدًا يترتب عليه العديد من الالتزامات والحقوق، فكما يجب على المريض دفع نفقات علاجه -إذا كان المستشفى يتقاضى من المرضى نفقات علاجهم- فإن على المستشفى علاج المريض، والعناية به، وأداء حقوقه، وفي مقدمة هذه الحقوق الحفاظ على أسراره؛ لأن هذه الأسرار من أخص خصائصه، وفي إفشائها خيانة له([11])، ومخالفة لأمر الله في قوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}([12])، وقوله -تعالى-: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا}([13])، والوفاء بالعقد والعهد في أمور الدنيا يشمل كل التزام أوجبه العاقد على نفسه.
وفي هذه المسألة لا مراء في أن المستشفى ملتزم بالمحافظة على أسرار مرضاه؛ لأن في إفشائها ضررًا لهم، وهو ملتزم حكمًا بعدم إتيان ما يسبب هذا الضرر، فإذا فعل ذلك وجبت مسؤوليته.
وخلاصة المسألة: أن أسرار المرضى تعتبر أمانة، وإفشاءها يعتبر خيانة، وقد نهى الله -تعالى-عن خيانة الأمانة، وقرر رسوله -ﷺ- أن خيانة الأمانة من النفاق.
وعلاقة المرضى بالمستشفى مبنية على عقد، ومن أسس هذا العقد -حتى وإن لم يكن مكتوبًا- المحافظة على أسرارهم، ومعلوماتهم؛ لأن إفشاءها يؤدي إلى ضررهم، ومن الواجب حكمًا على المستشفى عدم الإضرار بهم، وإلا عُدّ متعديًا عليهم، ووجبت مسؤوليته عن ذلك. والله أعلم.
([2]) متفق عليه، أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب خصال المنافق، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص46-47.
([4]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات، برقم (2546)، ج2 ص850، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (٢٠٧٩).
([5]) متفق عليه، انظر: اللؤلؤ والمرجان، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، برقم (1660)، ج3 ص190.
([6]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب الستر عن المسلم، برقم (4891)، سنن أبي داود ج4 ص273، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٨٦٦٤).
([7]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في نقل الحديث، برقم (4868)، سنن أبي داود ج4 ص267، حسنه الألباني في صحيح الترغيب، (٢٠٢٥).
([8]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في نقل الحديث، برقم (4869)، سنن أبي داود ج4 ص268، حسنه السيوطي في الجامع الصغير، (٩١٥٥).
([9]) إحياء علوم الدين للغزالي، ج2 ص164.
([10]) إحياء علوم الدين، ج2 ص164.
([11]) انظر: القوانين الفقهية لابن جزي، ص283.