الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالجواب على ذلك من حيث العموم: أن الله سبحانه وتعالى أذِن للمسلم الإفطار في السفر والمرض رحمة به وتيسيرا له، ودفعا للمشقة عنه، فقال تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]([1])، وقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فمنهم من قال إذا حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله في بلده وبين أهله فليكمل صيامه سواء سافر بعد ذلك أو أقام، وإن من يباح له الإفطار في السفر الذي دخل عليه رمضان وهو في سفر، وممن قال بهذا التأويل علي بن أبي طالب، وقد روي أنه -رضي الله عنه- كان في طريقه إلى نهروان، فلما أهل رمضان أصبح صائما، وممن قال به أيضا ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم.
ولكن الجمهور على خلاف ذلك، فيرون أن المقصود بالآية هو أن من شهد أول الشهر وآخره فليصمه ما دام مقيما، فإن سافر جاز له الإفطار، وقد أورد الإمام البخاري في ذلك أن رسول الله ﷺ خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر، فأفطر الناس([2])، كما ورد فيه ما رواه جابر أن رسول الله ﷺ خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون ما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه إن الناس صاموا، فقال: (أولئك العصاة)([3]). وقبل تحديد مدة السفر التي يباح فيها الإفطار نتعرض بإيجاز لمسألة ما إذا كان الصوم أو الفطر أفضل في السفر. فمن الفقهاء من يرى أن الصوم أفضل، وممن قال بهذا الإمامان أبو حنيفة ومالك([4])، وهذا مُقيد بألا يكون السفر لغزو وقرب من لقاء العدو، أو يُخشى أن يكون في الصوم مشقة لا تُحْتمل، ويحتج من يقول بهذا بحديث حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله إني أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال له رسول الله ﷺ: (هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه)([5]).
ومن الفقهاء من رأى أن الفطر في السفر أفضل من الصوم، وبهذا قال الأئمة أحمد وسعيد بن المسيب والأوزاعي([6])، واستدل هؤلاء بما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: (خياركم من قصر الصلاة، وأفطر في السفر)([7])، وقوله: (ليس من البر الصوم في السفر)([8])، ومنهم من رأى أن للمسافر الخيار في الصوم أو الفطر، ومن قال بهذا عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة استدلالا بقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185]، وبما روى أبو داود عن حمزة بن عمرو قال: قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه وأسافر عليه وأكريه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر -يعني رمضان- وأنا أجد القوة وأنا شاب وأجد أن أصوم يا رسول الله أهون علي من أن أؤخره فيكون دينا علي أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أو أفطر؟ قال: (أي ذلك شئت يا حمزة)([9])، ولعل الصواب في ذلك هو أن للمسافر الخيار، فإن كان قويا يستطيع الصوم بلا مشقة ولا تكليف لنفسه فهو أفضل؛ لأن مسألة الإفطار له مسألة رخصة وإباحة ومع أن الله يحب أن تؤتى رُخصه، إلا أن من يصوم أيام شهر رمضان، ويستمتع بفضائله أفضل ممن يصومها قضاء في شهر آخر. أما إن كان لا يستطيع الصوم في السفر إلا بمشقة فيكلف نفسه ما لا طاقة لها به، فلا شك أن الفطر أفضل له؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل التكليف مع الاستطاعة لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
وبعد هذا الإيجاز ما هو السفر الجائز فيه الإفطار، هل هو السفر المحدود بمدة قليلة أم بمدة طويلة؟ وقبل الجواب على ذلك ينبغي معرفة معنى السفر في اللغة. وقد عرفه صاحب المصباح المنير أنه قطع المسافة إذا خرج للارتحال، أو لقصد موضع فوق مسافة العدوى، وأقله يوم واحد أخذا من قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19]([10])، وبهذا ليس لأكثره مدة محدودة، فقد يكون يومين، أو سنة أو أكثر ما دام أن المسافر لا ينوي الإقامة في الموضع الذي ارتحل إليه. وقد اختلف الفقهاء في مدة السفر المباح فيه الإفطار، ففي المذهب الظاهري أنه يفطر في كل ما ينطبق عليه اسم سفر وهو لا يقل عن ميل([11])، ولكن جمهور الفقهاء على أنه لا يفطر إلا في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، ومن شروط هذا القصر في المذهب المالكي والشافعي ألا يعزم في خلال سفره على إقامة أربعة أيام بلياليها([12])، والمشهور عن الإمام أحمد أن المدة التي تلزم المسافر الإتمام بنية الإقامة فيها هي ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة، وعنه أنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم، وإن نوى دونها قصر، وفي المذهب الحنفي إن أقام خمسة عشر يوما مع اليوم الذي يخرج فيه أتم وإن نوى ذلك قصر، وروي ذلك عن سعيد بن جبير والليث بن سعد لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة([13]).
والغالب في هذه الأقوال: جواز القصر في الصلاة إذا كان المسافر يقيم في سفره أربعة أيام بلياليها فإن أقام أكثر لزمه الاتمام، وما يترتب على الصلاة يترتب على الصيام؛ وفقا لما رآه جمهور العلماء بأن ما يفطر في السفر الذي تقصر فيه الصلاة.
وعلى هذا فإن الطالب المبتعث للدراسة تلك المدة المعلومة يعتبر مقيما في مكانه، ولا يجوز له الفطر في رمضان مدة إقامته، فإن قيل إنه في حكم المسافر بدليل قول الله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ} [البقرة: 185]، فالجواب أنه مسافر مجازا ولكنه مقيم حكما؛ لأن من يقيم في مكان تتوفر له فيه وسائل الراحة والإقامة لا يعتبر مسافرا بحال، ولو كان ينوي السفر بعد نهاية دراسته أو خلال الإجازات الدراسية التي تتخللها. والله -تعالى- أعلم
([1]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج2 ص301.
([2]) أورده الإمام البخاري في كتاب الصيام، باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر، برقم (1944)، فتح الباري، ج4 ص213.
([3]) رواه مسلم في كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، صحيح مسلم بشرح النووي، ج7 ص232.
([4]) انظر المدونة الكبرى، ج1 ص180، والقوانين الفقهية لابن جزي، ص81-82، وبدائع الصنائع، ج2 ص94-96.
([5]) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، صحيح مسلم بشرح النووي، ج7 ص238.
([6]) المغني، ج3 ص18، وبداية المجتهد، ج1 ص296.
([7]) أورده المتقي الهندي في كنز العمال، ج8 ص245، برقم (22755)، باب صلاة المسافر، ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، (٣٥٦٠).
([8]) أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب قول النبي ﷺ لمن ظُلل عليه واشتد الحر: (ليس من البر الصوْمُ في السفر)، صحيح البخاري، ج2 ص238.
([9]) رواه أبو داود في كتاب الصيام، باب الصوم في السفر، برقم (2403)، ج2 ص316 والمقصود بالظهر موضع الركوب من الدابة، صححه شعيب الأرنؤوط في تخريج سنن أبي داود، (٢٤٠٣).
([10]) انظر المصباح المنير مادة «سفر»، ص278.
([11]) المحلى بالآثار، ج2 ص213.
([12]) انظر: بداية المجتهد، ج1 ص296، والقوانين الفقهية ص81-82.
([13]) انظر: في هذا المغني، ج2 ص132، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ج1 ص97.