هكذا ورد السؤال، وقبل الجواب عليه نشير بإيجاز إلى تعريف الوكالة، وإلى بعض أحكامها.
فهي لغة: تعني الحفظ والتفويض، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل} [آل عمران: 173]([1])، وقال على لسان نبيه هود وهو يخاطب قومه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [هود: 56] أي: فوضتُ أمري إليه، واعتمدت عليه.
أما تعريف الوكالة شرعًا فهي: “استنابة جائز التصرف فيما وُكل
فيه مثله”([2])، وقد وكل رسول الله -ﷺ-، ووكل أصحابه.
والوكالة عقد غير لازم، تجوز في الحقوق كالبيع، والشراء، والهبة، والصدقة، والإجارة، وقضاء الدين، واقتضائه، والنكاح، والطلاق، وسائر العقود الشرعية([3])، ولا تجوز الوكالة في العبادات البدنية كالصلاة، والصوم، ويستثنى من ذلك النيابة في الحج كاملًا، والنيابة في رمي الجمار لمن لا يستطيع ذلك؛ لأن المقصود بها المكلف نفسه، ولا تجوز في الشهادة؛ لكونها متعلقة بالشاهد ذاته فيما رآه، أو سمعه، أو تحقق منه، وتجوز في الحج لمن عجز عنه؛ لمرضه أو كبره أو موته، كما تجوز في أداء الزكاة، والنذر، والكفارة، والصدقة، مما لا يتعلق التكليف به ذات المكلف([4]).
ولا يشترط لعقد الوكالة لفظ معين، فكل ما دل على التوكيل جاز، كقول الموكل للوكيل: “أنت وكيلي”، أو “قد وكلتك”، أو ما يقوم مقام ذلك من قول أو فعل([5]).
وللوكالة ركنان، هما: الإيجاب من الموكل، والقبول من الوكيل، كما هو الحال في سائر العقود الأخرى، ويمكن أن يكون السكوت قبولًا؛ لأن السكوت في معرض الحاجة كلام.
والوكالة إما أن تكون مشروعة، أو غير مشروعة، فالوكالة المشروعة هي كل وكالة في أمر مشروع كالبيع، والشراء، والتأجير، وقبض الدين، وقضائه، واقتضائه، وذلك كله في إطار ما أباحه الشرع في أمور المعاوضات.
أما الوكالة غير المشروعة فهي كل وكالة في معصية، فلو وكل وكيلًا ليبيع أو ليشتري له بيعًا أو شراءً ربويًّا، أو نحو ذلك مما يحرم تعاطيه، فالوكالة فيه باطلة([6]).
هذا من حيث العموم بالنسبة لعقد الوكالة، أما بالنسبة للسؤال عن أنواعها فالجواب أنها نوعان: وكالة عامة، ووكالة خاصة، فالوكالة العامة: هي كل استنابة لم يصحبها شرط، أو قيد، أو توقيت، والسؤال هو: هل يجوز للموكل أن يقول لوكيله: وكلتك في كل شيء، أو في كل قليل وكثير، وهل يجوز له أن يقول: وكلتك في كل تصرف يجوز لي، أو في كل ما يجوز لي التصرف فيه، وهل يجوز له أن يقول: فوضتك في شراء ما تشاء وتختار؟.
يرى الإمام أبو حنيفة: أن الوكيل العام وكيل في المعاوضات، لا في الهبات، وعن صاحبه محمد بن الحسن أنه وكيل في المعاوضات والإجارات والهبات، ومفاد ما في المذهب الحنفي من آراء أن الوكيل العام يملك كل شيء إلا الطلاق، والهبات، والوقف، والإبراء من الدين، والقرض، والعارية، وكافة أوجه التبرع، ولكنه يملك قبض الدين، واقتضاءه، وإيفاءه، وإقامة الدعوى لتحصيل حقوق الموكل، وسماع الدعوى بحقوق عليه([7]).
وفي مذهب الإمام الشافعي نحو من ذلك([8]).
وفي مذهب الإمام مالك: “إذا قال الموكل بأنه وكيل وكالة مفوضة، فهذا التوكيل تام في جميع أمور الوكالة، فيجوز فعله في كل شيء من بيع وشراء وصلح وغيره، وفي قول آخر في المذهب أن التوكيل العام الشامل أن يقول: “وكل فلان فلانًا توكيلًا مفوضًا جامعًا لمعاني التوكيل كله، لا يشذ عنه فصل من فصوله، ولا فرع من فروع أصل من أصوله، دائمًا مستمرًّا، وأذن له أن يوكل عنه ما شاء بما شاء من فصوله…، وفي قول آخر يستثنى من الوكالة المفوضة: الطلاق، والنكاح، وبيع دار السكن”([9]).
وفي مذهب الإمام أحمد: لا تصح الوكالة إلا في تصرف معلوم، فلو وكل وكيلًا في كل شيء، أو في كل قليل وكثير، أو في كل تصرف يجوز له، أو في كل ما له التصرف فيه؛ لم يصح. والسبب أن إطلاق التوكيل على هذا النحو فيه غرر وضرر؛ لما يؤدي إليه من هبة الوكيل لمال موكله، وترتيب ديون عليه، كما لو قام بشراء شيء بثمن باهظ، لا يقدر الموكل على ثمنه([10]).
وينبني على ما سبق أن الوكالة العامة أو الشاملة ينبغي أن تنصرف إلى المعاوضات المالية، ولا تشمل خصوصيات الموكل من زواج، وطلاق ونحوهما، كما لا تشمل كل ما فيه غرر وضرر له، من هبات، وتبرعات، وشراء ما لا يقدر على ثمنه، ونحو ذلك.
الوكالة الخاصة: هي كل استنابة في أمر معين، كالتوكيل بشراء دار أو سيارة، أو إقامة دعوى لتحصيل دين معين، أو نحو ذلك مما يكون في لفظه التخصيص، ولا إشكال في هذه الوكالة؛ لكونها تنصرف إلى أمر معين يجب ألا يجاوزه الوكيل، فإذا كانت الوكالة لشراء دار فلا يتجاوز في الشراء إلى شيء آخر.
ولو اختلف الموكل والوكيل في عملية الشراء، كما لو اشترى له دارًا غير الدار التي يريدها، فالمرجع في هذا العرف، وحالة الموكل ومكانته، فالرجل العادي لا يفترض فيه أن يشتري دارًا أو سيارة إلا بما يصلح لمثله، وهكذا.
أما سؤال الأخ السائل عن الحالات التي يجوز فيها عمل وكالة غير قابلة للإلغاء، فالجواب أن الوكالة عقد غير لازم للموكل والوكيل، فلكل منها حلها([11])، وتبطل بموت أحدهما، أو جنونه المطبق، أي: غير العارض([12])، أما لو كانت الوكالة جبرًا، كالوصية، أو ولاية اليتيم، أو نظارة الوقف، فلا تبطل بموت الموكل([13]).
وخلاصة المسألة: أن الوكالة تجوز في المعاوضات المادية، ولا تجوز في العبادات البدنية، أو الشهادة، أو الإيمان، أو نحو ذلك؛ لكون ذلك يتعلق بالمكلف بعينه، وتجوز في الحج، وفي كل ما لا يتعلق التكليف به ذات المكلف، ولا يشترط لعقدها لفظ معين.
والوكالة إما أن تكون مشروعة، أو غير مشروعة، فإن كانت في أمر مشروع جازت، وإلا فلا، وهي على نوعين: وكالة عامة، ووكالة خاصة، فالوكالة العامة: كل استنابة أو تفويض لم يصحبه شرط أو قيد أو توقيت بزمن، وينبغي أن تنصرف إلى المعاوضات المالية، ولا تشمل خصوصيات الموكل من زواج وطلاق، كما لا تشمل كل ما فيه غرر وضرر له من هبات، وتبرعات، وشراء ما لا يقدر على ثمنه.
أما الوكالة الخاصة فهي: كل استنابة في أمر معين ومخصوص، كشراء دار وسيارة، ونحو ذلك.
والوكالة عقد غير لازم للموكل والوكيل، فلكل منهما حلها.
والله أعلم.
([1]) وقد ورد في تفسير هذه الآية الكريمة أن المقصود من الناس: المنافقون، ذلك أن رسول الله-ﷺ-لما تجهز هو وأصحابه للسير إلى بدر الصغرى، لميعاد أبي سفيان، أتاهم المنافقون، وقالوا: نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم، وعصيتمونا، وقد قاتلوكم في دياركم، وظفروا، فإن أتيتموهم في ديارهم فلا يرجع منكم أحد، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج4 ص279-280.
([2]) انظر: شرح منتهى الإرادات، ج2 ص300.
([3]) شرح منح الجليل، ج6 ص357، وانظر: بدائع الصنائع، ج6 ص20، وشرح منتهى الإرادات، ج2 ص302.
([4]) شرح منح الجليل، ج6 ص359، ونهاية المحتاج، ج5 ص22، والمغني والشرح الكبير، ج5 ص205.
([5]) منح الجليل، ج6 ص368، وانظر: شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر، ص526.
([6]) شرح منتهى الإرادات، ج2 ص 302.
([7]) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين، ج1 ص339-340، وانظر: الفتاوى الخيرية على مذهب الإمام أبي حنيفة، ج2 ص43.
([8]) انظر: نهاية المحتاج للرملي، ج5 ص23، والأشباه والنظائر في الفروع للسيوطي، ص261.
([9]) شرح منح الجليل، ج6 ص372-373.
([10]) وفي رواية عن الإمام أحمد ما يدل على صحة الوكالة في شراء الشيء؛ لقوله في رجلين قال كل واحد منهما لصاحبه: ما اشتريت من شيء فهو بيننا، إنه جائز، انظر: المغني والشرح الكبير، ج5 ص211-212.
([11]) انظر: شرح منح الجليل، ج6 ص416.
([12]) انظر: المغني والشرح الكبير، ج5 ص242.
([13]) انظر: شرح منح الجليل، ج6 ص416، وشرح منتهى الإرادات، ج2 ص305-306.