والجواب عن هذا: أن الأصل تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين، أي: بعد انقضاء مئة وعشرين يوما على بداية الحمل، وذلك باعتبار أن الجنين في هذه المرحلة نفس مؤمنة يحرم قتلها، وقد أجمع الفقهاء على هذا التحريم بلا خلاف بينهم ما لم يكن هناك ضرورة شرعية، فهذه تقدر بقدرها.
أما الإجهاض «قبل» نفخ الروح -أي: قبل تمام مئة وعشرين يوما من بداية الحمل- فللفقهاء في ذلك عدة آراء:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا تجب الغرة إلا إذا استبان بعض خلق الطرح، فإذا لم يتبين بعض خلقه فلا إثم فيه. وفي قول آخر في المذهب: يأثم الفاعل (الأب أو الأم أو غيرهما)، واستدل من قال بذلك على أن المحرِم لو كسر بيض الصيد يضمنه؛ لأنه أصل الصيد، وعلى هذا فإن الطرح الذي لم يتبين بعض خلقه هو مبتدأ الخلقة؛ إذ لو تُرك لكان نفسا كاملة، ولهذا يأثم من ألقاه، ولكن هذا لا يصل إلى إثم القتل([1]).
وعند الإمام مالك: أن كل ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة، مما يُعْلمُ أنه ولد؛ فهو جنين، وفيه غرة، وبعض أصحاب الإمام مالك يرتب المسؤولية في الدم الخارج مما لا يقبل الذوبان إذا صُب عليه ماء حار([2]).
ويرى الإمام الغزالي: أن أول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفسادُ ذلك جناية([3]).
وفي المذهب الحنبلي: إذا أسقطت المرأة ما ليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه، ولو شهد ثقات من القوابل أن في الطرح مبدأ خلق آدمي لو بقي تصور، فأصح الوجهين أنه لا شيء فيه؛ لأن الأصل براءة الذمة، فلا تُشغلُ بالشكِّ([4]).
ويتبين من هذا حذر الفقهاء في مسألة الإجهاض «قبل» نفخ الروح في الجنين، وإذا تصورنا سبب إجهاضة «قبل» نفخ الروح فيه نجد أنه لا يخلو من حالات ثلاث:
الحالة الأولى: أن يكون الإجهاض لعذر صحي، كوجود خطر على الأم من استمرار الحمل، أو أي عذر شرعي آخر، كحالات الاعتداء عليها، فهذا جائز؛ لأنه يدخل تحت حكم الضرورة.
الحالة الثانية: أن يكون سبب الإجهاض الحدَّ من النسل مخافة النفقة والأعباء، فنرى أن هذا لا يجوز؛ لأنه يدخل في نهي الله عن قتل الأولاد خشية الفاقة، كما في قوله -تعالى-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151]، وقوله -تعالى-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا} [الإسراء:31].
الحالة الثالثة: أن يكون الإجهاض لغير هذين السببين، مثل: رغبة الأم تأخير الإنجاب إلى وقت آخر؛ محافظةً على شبابها أو هيئتها، أو لكونها تنتظر فترة علاقتها مع الزوج، وتعامله معها، فتلجأ إلى الإجهاض خلال هذه الفترة مخافة طلاقها ونحو ذلك، فهذا لا يجوز.
وقد يقال: إن ما في الرحم قبل مرور مئة وعشرين يوما مجرد «مادة» لا روح فيها، فلماذا لا يجوز طرحها؛ لأن التحريم منصب على النفس التي تكونت، وأصبح لها كيان مستقل في الرحم؟.
ويرد على هذا بأن في هذه المادة مبتدأ الخلق، وهي في حقيقتها نفس مؤمنة باعتبار ما سيكون، وليست مدة المئة والعشرين يوما إلا مقياسًا لكمال الروح والتكوين، ولا نظن أن هناك فرقًا بين جنين مدته مئة وعشرة أيام وآخر مدته مئة وعشرون يوما.
إن الحمل هبة الله لخلقه، ومن يتعدى على هذا الخلق يرد هبة الله، بل هو في الحقيقة يعترض على إرادته وحكمته.
وخلاصة المسألة: عدم جواز الإجهاض المتعمد قبل انقضاء مدة مئة وعشرين يوما، ومن فعل ذلك عامدا يعتبر آثما، ما لم يكن له ضرورة شرعية. والله أعلم.
([1]) انظر: فتح القدير لابن الهمام، ج2 ص539، وحاشية رد المحتار لابن عابدين، ج6 ص591.
([2]) شرح الزرقاني وحاشية الشيباني، ج8 ص31، وانظر: بداية المجتهد، ج2 ص48، ومنح الجليل، ج9 ص97-98.