ومفاد هذه المسألة سؤال من أحد الإخوة القراء يسأل فيه عن الأصل في العقود، أهو الحل أم الحرمة؟

هل الأصل في العقود الحل أم الحرمة

والجواب عن هذا: أن الأصل في العقود الإباحة، وتفصيل ذلك أن تصرفات المسلم تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: يتعلق بعبادة المسلم، أي ما فرض الله عليه من عبادته وطاعته مما هو معروف من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وغير ذلك، فمصدر هذا الفرض الشرع، والأصل فيه التوقيف، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشوري: 13]، وقال -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [الجاثية: 18].

وينبني على هذا تحريم كل قول أو فعل أو سلوك يخالف هذا الشرع، ومن فعل ذلك دخل في قول الله -تعالى-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشوري: 21]، وقوله -تعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون} [المائدة: 50].

القسم الثاني: يتعلق بالتصرفات الدنيوية للمسلم، وهذه التصرفات على نوعين:

النوع الأول: ما ورد فيه حكم من كتاب الله، أو سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، كتحريم الربا والظلم والغش، فهذا مما تحرم مخالفته؛ لأنه شرع الله أراده لمصلحة عباده، فلم يُحرم الربا إلا لأنه عرف بعلمه وحكمته أن فيه ضررًا لخلقه؛ لما فيه من استغلال القوي للضعيف، وما حرم الظلم إلا لأن فيه قسوة القادر على غير القادر، وما حرم الغش إلا لأن فيه فساد العلاقة بين الناس، وفساد معاشهم وحياتهم.

النوع الثاني: ما تعارف عليه الناس مما يحتاجونه في تصريف أحوالهم ومعاشهم، وعلاقاتهم الدنيوية من بيع وشراء وإجارة ووكالة وكفالة ونحو ذلك، فالأصل فيه الحل والإباحة، ودليل ذلك من كتاب الله قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، والمقصود به كما قال الحسن: عقود الديْنِ من بيع وشراء وإجارة وكراء، ونحو ذلك، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “معناه: بما أحل، وبما حرم، وبما فرض، وبما حد في جميع الأشياء”([1])، ودليل ذلك-أيضًا -قول الله -تعالى-: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 34].

ودليل ذلك من السنة قول رسول الله -ﷺ-: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حراما)([2])، وقوله: (قال الله -تعالى-: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر…)([3]).

فدلت هذه الأدلة على أن الأصل في العقود الحل والإباحة، ما لم تُحرم ما أحل الله، أو تُحِلَّ ما حرم الله، وفي ذلك قال الإمام ابن تيمية: “إن العقود والشروط من باب الأفعال العادية، والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم، كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم”([4]).

وينبني على ذلك عدم تحريم ما أحله الله، ومن فعل ذلك فقد وضع شرعًا غير شرع الله، وحرم على عباده ما أحله لهم، وعسر عليهم ما يسره لهم، واختاره ليسر معاشهم وأحوالهم، ومن يفعل ذلك بحجة “التحوط، ودفع ما يمكن دفعه، ونحو ذلك من التعابير، فقد دخل في معنى قول الله -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقوله -تعالى-: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلَالٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُون} [النحل: 116].

وقد أخرج الدارمي في سننه: “أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم يقول قط: حلال، ولا حرام، إنما كان يقول: كانوا يتكرهون، وكانوا يستحبون”([5])، وقال ابن وهب: “قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا: هذا حلال، وهذا حرام، ولكن يقال: أنا أكره كذا، وأما حلال وحرام فهذا الافتراء على الله: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا}؛ لأن الحلال ما أحله الله ورسوله”([6]).

وقال الإمام ابن تيمية: “فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله، بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله، فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به، فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله، والعقود في المعاملات هي من العادات”([7]).

والإباحة في العقود مشروطة -أيضًا- بـ”عدالتها”، فكل عقد -وإن كان حلالًا- يفترض فيه العدل، أو ما يمكن تسميته بـ”التوازن المعقول بين طرفيه”، فإذا لم يتصف العقد بالعدل أصبح ظلمًا لأحدهما، فلم يحرم الله الربا إلا لما فيه من ظلم واستغلال، ولم يحرم الميسر إلا لما فيه من المخاطرة والمجازفة بالمال، وهكذا.

وقد أوضح الله في كتابه أنه أرسل الرسل بما معهم من البينات ليقيموا العدل، ويرفعوا الظلم، فقال -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

وخلاصة المسألة: أن الأصل في العقود الحل والإباحة، ما لم يكن في هذه العقود ما يحل حرامًا حرمه الله على عباده، أو يحرم حلالًا أحله الله لهم، كما أن الأصل في العقود العدل، فكل عقد وإن كان حلالًا يفترض فيه أن يكون عادلًا، فإن انتفت عنه هذه الصفة أصبح من باب الظلم الذي حرمه الله، وبالتالي صار حرامًا.

والله أعلم.

 

([1]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج6 ص32.

([2]) سنن ابن ماجة، كتاب الأحكام، باب الصلح، برقم (2353)، ج2 ص788، وسنن أبي داود، كتاب الأقضية، باب الصلح، برقم (3594)، ج3 ص304، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٩١٩).

([3]) وتمام الحديث: “ورجل باع حرًّا، فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا، فاستوفى منه، ولم يعطه أجره”. أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب إثم من باع حرًّا، برقم (2227)، انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج4 ص487.

([4]) القواعد الفقهية والنورانية، ص222، وانظر: نظرية العقد للإمام ابن تيمية، ص226.

([5]) سنن الدارمي، ج1 ص64.

([6]) المدارك، ص158.

([7]) القواعد الفقهية والنورانية، ص223.