والجواب: أن هذا ومثله يحدث في علاقة الأب بالولد تبعًا لرؤية الأب وتصوره واعتقاده، فقد يرى أن أولاده ليسوا بحاجة إلى مال يتركه لهم، وأن خير ما يتركه لهم تربية صالحة، وخلق، وعلم ينتفعون به، وقد يرى أن المال ليس في صالحهم، وأنه أولى بماله من غيره، فيضعه في وجوه؛ البر ليدخر ثوابه له، وقد يكون الأب مضارًا حين يريد الانتقام من ورثته بسبب عقوقهم له، وتنكرهم له في حال كبره، ولكن هذا من النوادر، فالوالد أحرص ما يكون على ولده في حياته، وبعد مماته، وما من شك في أن عاطفة الأبوة تتغلب دائمًا على ما قد يكون في نفس الوالد على ولده.
فقد تخلت أم شاب عن كل ما في نفسها عليه حين منع عقوقُه لها نطقَه بالشهادتين عند نزع الموت، تخلت عن ذلك رغم عقوقه لها لما علمت أنه أصبح عاجزًا عن كلمة الحق في آخر لحظة له من الدنيا([1]).
ومن حيث العموم فالمنفق للمال قد يكون في حال من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون محجورًا عليه، وقد يكون الحجر لسفه، وفي ذلك قال-تعالى-: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]، وقد يكون لعدم وفاء ماله لدينه، فيحجر عليه لحفظ أموال الدائنين، ودفع الضرر عنهم، فمتى أشهر حجره لم يجز تصرفه في ماله، سواءٌ بالبيع، أو الهبة، أو نحو ذلك من وجوه الإنفاق.
وللفقهاء في مسألة الحجر عدة أقوال:
فعند الإمام أبي حنيفة: لا يجوز الحجر لأي سبب، فإذا بلغ، ولم يعرف منه رشد، فيحال بينه وبين ماله، فإن باع منه، أو أقر بشيء وجب نفاده، فإذا بلغ خمسًا وعشرين سنة وجب دفع ماله إليه، وإن لم يعرف منه رشد([2]).
والإمام مالك على خلاف ذلك، فيرى حجر من لا يحسن ضبط ماله، أو يُخدع في بيوعه، ولا يفك الحجر عنه إلا القاضي بعد أن يظهر له رشده([3]).
والإمام الشافعي يرى أن ترد جميع أفعاله إذا كان مفسدًا، سواء حجر عليه القاضي أم لم يحجر، وتنفذ أفعاله إذا رشد، سواء حل ذلك القاضي أو لم يحله([4]).
وفي المذهب الحنبلي: يجب الحجر عليه إذا كان ماله لا يفي بدينه، وإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر على مدينهم لزمته إجابتهم، واستدلوا على ذلك بما روي أن رسول الله -ﷺ-حجر على معاذ، وباع ماله([5]).
وفي المذهب الظاهري: إذا بلغ وهو مبذر يبقى على الحجر، ولا يفك عنه إلا بيقين عن رشده([6]).
الحالة الثانية: أن يكون المنفق لماله مريضًا.
والعلة في ذلك: أن المريض ضعيف الإدراك، ليس في مقدوره كمال التصرف، وقد يدركه هذا الضعف، فيتصرف في ماله على خلاف الشرع، فيعطي من لا يستحق، ويمنع من يستحق، ولهذا فإن جمهور الفقهاء على أن عطيته أو هبته تعتبر في ثلثه كالوصية، والمراد بالمرض المانع ما كان منه “مخوفًا”، ويُعَبِّرُ عنه الفقهاء بأن يكون المريض صاحب فراش، أي: غير قادر على الذهاب والإياب، وخدمة شؤونه، ولو أشكل مرضه: هل هو مخوف أو غير مخوف؟ فالعبرة بشهادة طبيبين عدلين([7]).
الحالة الثالثة: أن يكون المنفق لماله صحيحًا.
والسؤال في هذه الحالة: هل يحق للإنسان أن ينفق ماله في وجوه البر كما في السؤال دون اعتبار لورثته؟.
وهنا ينبغي التفريق بين وصية من له ورثة، ووصية من لا وارث له، وبين تصرفه وهو صحيح، فوصية من له ورثة لا تنفذ إلا في الثلث من ماله، فلو أوصى عند موته، أو ترك وصية أوصى فيها بتوزيع ثروته، فلا يصح ذلك إلا في الثلث؛ عملًا بما رواه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-قال: عادني رسول الله -ﷺ-، فقلت: أوصي بمالي كله؟، قال: (لا)، قلت: فالنصف؟، قال: (لا)، قلت: فالثلث؟، قال: (نعم!، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)([8]).
أما من لا وارث له فله أن يوصي بكل ماله؛ استدلالًا بحديث سعد بن أبي وقاص الآنف الذكر؛ لأن المقصود بالمنع بأكثر من الثلث حماية الورثة، فإذا لم يكن له وارث فقد انتفى المنع.
أما إذا أنفق ماله وهو في حال صحته فجمهور الفقهاء على أن له الحق في أن يهب جميع ماله، واستدلوا على هذا بحديث أبي بكر -رضي الله عنه-أنه كان نحل ابنته عائشة جذاذ عشرين وسقًا من مال الغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بُنية! ما من الناس أحد أحب إلى غِنًى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقًا، فلو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث([9]).
وفي المذهب الحنفي: لو قال: “ما أملكه فهو صدقة تصدق بجميع ماله”، ويمسك قدر ما ينفقه على نفسه وعياله إلى أن يكتسب مالًا؛ لأنه لو تصدق على غيره بكل ماله لاحتاج إلى أن يتصدق عليه غيره، وقد قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: (ابدأ بنفسك، فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك)([10]).
وفي المذهب الشافعي: تحرم صدقته بما يحتاج إليه لنفقة من تلزمه؛ بدليل قول رسول الله -ﷺ-: (كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته، وابدأ بمن تعول)([11]).
وقد روي أن عمر بن عبد العزيز قال في الرجل يتصدق بماله كله: “إذا وضع كل ماله في حق فلا أحد أحق بماله منه، وإذا أعطى بعض الورثة دون بعضهم فليس له إلا الثلث”([12]).
كما روي أن امرأة رأت في منامها قرب أجلها، فأقبلت على مالها، وفرقته، وماتت، فأتى زوجها إلى أبي موسى الأشعري يسأله، فقال له أبو موسى: أيَّ امرأة كانت امرأتُك؟، فقال: ما أعلم أحدًا كان أحرى منها أن تدخل الجنة إلا الشهيد، ولكنها فعلت ما فعلت وهي صحيحة، فقال أبو موسى: هي كما تقول: فعلتْ ما فعلت وهي صحيحة، فلم يرده أبو موسى([13]).
وخلاصة الجواب عن هذه المسألة: أنه يجوز للإنسان في حالة صحته إنفاق ما يشاء من ماله في وجوه البر والإحسان، وليس عليه من قيد في ذلك إلا إذا كان مدينًا أو مريضًا، أو كان له ذرية صغار لم يترك لهم نفقتهم أو كسوتهم، وفيما عدا ذلك فإن له كامل الحق في التصرف بماله في البر، والإحسان، والهبة، والعطية، وليس لورثته حق في الاعتراض عليه.
أما القول بأنه فعل ذلك لشيء في نفسه عليهم فهذا لا يبرر اعتراضهم، وأمره إلى الله فيما يفعل بماله.
والله أعلم.
([1]) عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا عند النبي-ﷺ-، فأتاه آتٍ، فقال: شاب يجود بنفسه، قيل له: قل: لا إله إلا الله، فلم يستطع، فقال: “كان يصلي”؟، فقال: نعم!، فنهض رسول الله-ﷺ-، ونهضنا معه، فدخل على الشاب، فقال له: “قل: لا إله إلا الله”، قال: لا أستطيع، قال: “لِمَ”؟، قال: كان يعق والديه، فقال النبي-ﷺ-: “أَحَيَّةٌ والدتُه”؟، قالوا: نعم! قال: “ادعوها”، فدعوها، فجاءت، فقال: “هذا ابنك”؟، فقالت: نعم! فقال لها: “أرأيتِ لو أججت نار ضخمة، فقيل لك: إن شفعت له خلينا عنه، وإلا حرقناه بهذه النار؟، ألست تشفعين له”؟، قالت: يا رسول الله! إذًا أشفعَ، قال: “فأشهدي الله، وأشهديني أنك قد رضيت عنه”، فقالت: اللهم إني أشهدك، وأشهد رسولك أني قد رضيت عن ابني، فقال له رسول الله-ﷺ-: “يا غلام! قل: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”، فقالها، فقال رسول الله-ﷺ-: “الحمد لله الذي أنقذه بي من النار”. مجمع الزوائد ، ج8 ص148.
([4]) الأم، ج3 ص218-219، والمجموع، ج13 ص368.
([5]) المغني والشرح الكبير، ج4 ص456.
([6]) المحلى بالآثار، ج7 ص146.
([7]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج2 ص327، وانظر: حاشية رد المحتار لابن عابدين، ج3 ص384، والأم للإمام الشافعي، ج4 ص107، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني، ج4 ص416-417 ، والمغني والشرح الكبير، ج6 ص505.
([8]) أخرجه أبو داود في كتاب الوصايا، با ما يؤمر به من الوصية، برقم (2864)، ج3 ص112، ورواه النسائي في كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث ج6 ص 241 – 242.
([9]) بداية المجتهد، ج2 ص328، وانظر: القوانين الفقهية لابن جزي، ص241.
([10]) بدائع الصنائع، ج6 ص111، والحديث رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم الأهل ثم الأقارب، ج7 ص: 82-83.
([11]) مغني المحتاج للشربيني، ج3 ص122، وانظر: نهاية المحتاج للرملي، ج6 ص174، والحديث رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم الأهل ثم الأقارب، صحيح مسلم بشرح النووي ج7 ص82-83.