ومفاد هذه المسألة: سؤال عن حكم من تعاقد على عمل محرم، وبعد مضي مدة من تنفيذ العقد ندم على فعله، فتاب منه، ثم أراد التحلل من عقده بحكم توبته، فهل يحق له ذلك؟، وهل يحق للعاقد الآخر أن يتمسك بهذا العقد، أو يجعل منه ذريعة للتشهير بالعاقد الآخر؟.

حكم من عقد عقدًا للقيام بعمل محرم، ثم أراد التحلل منه

والجواب عن هذا من أربعة وجوه:

الوجه الأول: أن الشريعة تبيح كل شرط يشترطه المسلم في تعامله وتصرفه، ولم تضع عليه في ذلك قيدًا طالما أن شروطه لا تتعارض مع أوامر الشرع ونواهيه، كُلًّا أو جزءًا، فالشرط المعتبر إذًا هو ما تعلق بأمرٍ أحله الله -تعالى-، وأباحه لعباده، سواءٌ جاء على وجه الإجمال أو التفصيل، ومن ذلك: تحليل البيع، وتحريم الربا في قوله -تعالى-: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، ومن ذلك: إباحة الطلاق، وتحريم الإضرار بالنساء في قوله -تعالى-: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]، ومن ذلك: الأمر بالصداق، ووجوب الوفاء به، وتحريم هضم المرأة المطلقة حقها في قوله -تعالى-: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينا. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21].

وتحريم الشروط المنافية لشرع الله يقصد منه في الغالب الأعم مصلحة العباد، فالإضرار بالنساء، وتعاطي الربا، وعدم الوفاء بالصداق ظُلمٌ يقع في الغالب من طرف قوي ضد طرف ضعيف، وشرع الله وعدله يحرم الظلم، ويعاقب عليه، ومصالح العباد تتعلق بأنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم، فلهذا حرم الله القتل ظلمًا، وعاقب عليه، فأي عقد ينصبُّ على ارتكابه يعتبر باطلًا؛ لأن محله العدوان، والعدوان محرم، وأي عقد ينصب على السرقة يعتبر باطلًا، سواءٌ تمت السرقة مباشرة كالسطو، أم كانت في شكل اختلاس، وأي عقد ينصب على الاعتداء على العِرض يعتبر كذلك باطلًا، سواءٌ وقع مباشرة كالاغتصاب، أم كان في صورة إفساد الأخلاق، والإخلال بالآداب، وأي عقد ينصب على إفساد العقل يعتبر باطلًا، سواءٌ كان الإفساد مباشرًا كما في حالة المخدرات اليوم، أم كان في صورة توجيه يؤثر على العقل، فيفسده، ويحرفه عن وظيفته، وهكذا في كل أمر مماثل حرمه الله.

الوجه الثاني: التحلل من العقد المحرم: الوفاء بالعقد أمر شرعي لازم؛ لقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله -تعالى-: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا} [الإسراء: 34]، ولكن الوفاء بالعقد يقتضي أن يكون مباحًا في وسيلته، فلو تعاقد مع آخر على أن يعمل له عملًا مشروعًا، بوسيلة غير مشروعة -كأن يداويه بدواء محرم-، فعقده باطل، والوفاء بالعقد يقتضي أن يكون مباحًا في غايته، فلو تعاقد مع آخر على ارتكاب فعل محرم كالقتل، أو السرقة، أو الزنا، أو الإخلال بالآداب العامة، فعقده باطل من أصله.

وقد أوضح ذلك رسول الله -ﷺ-، وأبانه بقوله: (ما بالُ الناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مئة شرط، شرط الله أحق وأوثق)([1])، وقوله: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم)([2])، وقوله: (المسلمون عند شروطهم)([3])، ومعنى هذا واضح في أن كل صلح أو شرط ليس له سند في كتاب الله، أو سنة رسوله، فهو باطل في ذاته، وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن تيمية بقوله: (وليس من دين الإسلام من يعاهد عهدًا على ترك واجب، أو فعل محرم، ويكون ذلك العهد لازمًا له، بل مثل هذا العهد يجب نقضه باتفاق المسلمين”([4]).

الوجه الثالث: عدم جواز التمسك بالعقد الباطل: لما كان العقد غير مشروع في أصله فلا يحق لأحد أن يتمسك به؛ لأنه معصية، وأفعال العباد يفترض فيها أداء الطاعات، والامتناع عن المعاصي والمحرمات، وفي ذلك قال رسول الله -ﷺ-: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)([5])، وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن تيمية بقوله: “ومن عرف حقيقة دين الإسلام، وما اشتمل عليه من مصالح الأنام، وطاعة الملك العلام، وتضمنه من إرشاد العباد إلى ما ينفعهم في المعاش والمعاد، وحفظ ما أنزل الله من الذكر الحكيم، وصونه من كل شيطان رجيم، يتبين له أنه لا سبيل لأحد أن يعقد عقدًا لازمًا يمنع من طاعة الله ورسوله، ولا يكلف العباد بتحليل تلك العقود إلى ما يصرفهم عن طاعة الله ورسوله…، والشارع أبدًا يرغِّبُ الناس في الطاعات، ويخوفهم، ويحذرهم من السيئات، ويسهل عليهم سبيل الطاعة، ويعظم عليهم سبيل المعصية، فكان من تمام الدين الذي بعث الله به خاتم النبيين قوله-ﷺ-: (من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)([6]).

الوجه الرابع: لا يجوز لأحد العاقدين أن يجعل من عقده المحرم ذريعة للتشهير بالعاقد الآخر المتحلل منه، ومفاد ذلك: أن هذا العاقد يعتبر تائبًا من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فمن شهر به، أو عيره بذنبه فقد اعتدى على عرضه، وقد حرم ذلك رسول الله -ﷺ-بقوله: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)([7])، كما أنكر على من قسا على المرأة التائبة من ذنبها بقوله: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)([8]).

وخلاصة المسألة: أن من عقد عقدًا محرمًا فعليه أن يتوب ويتحلل منه، ولا يحق للعاقد الآخر أن يتمسك به؛ لأن عقده هذا قائم على مخالفة لأوامر الله، ولا حرمة لأي فعل أو تصرف فيه مخالفة لأوامر الله، سواءٌ كان بالمباشرة، أو الوسيلة، أو بأي صفة كانت.

ولا يحق لأي طرف في هذا العقد أن يُشهر بالطرف المتحلل منه، فإن فعل ذلك فقد اعتدى على عرضه، وحق للمعتدى عليه مقاضاته..، ومن ذلك: ما يتعرض له التائبون اليوم من التمثيل الماجن وما في حكمه من تشهير بهم، وإشاعة أعمالهم السابقة، بحجة أنهم قد تقاضوا عنها أموالًا من العاقدين معهم، فهذا كله من إشاعة الفحشاء، والاعتداء عليهم، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 19].

والادعاء بنفاذ عقودهم السابقة ادعاء غير صحيح؛ لأن هذه العقود مُحرمة في أصلها، ولا حرمة لما حرمه الله، وكل عقد محرم فوجوده كعدمه.

والله أعلم.

 

([1]) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب الشراء والبيع، والبيع مع النساء، برقم (2155)، فتح الباري ج4 ص 432.

([2]) أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب الصلح، برقم (3594) ج3 ص 304، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٩١٩).

([3]) أخرجه البخاري في كتاب الإجارة، باب أجر السمسرة، رقم الباب (14).

([4]) نظرية العقد، ص98.

([5]) سنن النسائي، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في المعصية، ج7 ص17،  أخرجه البخاري (٦٦٩٦).

([6]) نظرية العقد، ص33-34، والحديث أخرجه النسائي في كتاب الأيمان والنذر، باب الكفارة قبل الحنث، ج7 ص9-10، أخرجه مسلم، (١٦٥٠).

([7]) أخرجه  البخاري، (١٧٣٩)، رواه ابن ماجة في كتاب المناسك، باب حجة الرسول-ﷺ-، برقم (3074)، ج2 ص1024.

([8]) أخرجه مسلم، (١٦٩٦)، أخرجه الإمام أحمد في مسند عمران بن الحصين، ج4 ص430.