ومفاد هذه المسألة سؤال عن حكم صيام شخص مزمن المرض، وقد أكد له الأطباء أن الصيام يزيد في مرضه، ولكن يصعب عليه أن يرى نفسه مفطرا في رمضان فهل يجب عليه الصيام أم لا؟

حكم صيام المريض وصيامه يزيد في مرضه

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فمن الواضح أن الأمراض أصحبت تنتشر في العصر الحاضر أكثر من ذي قبل، كأمراض الكلى، وقرحة المعدة، والإثني عشر، والأمراض الأخرى المعقدة. وقد يشتد بعض هذه الأمراض مع الصيام فيتضاعف خطرها وتسوء حالة المريض، وصيام شهر رمضان عبادة أساسية في حياة المسلم، ويصعب عليه أن يجد نفسه مفطرا في وقت يتلذذ فيه الصائمون بصيامهم… وفي وضع كهذا قد يتمالك على نفسه فيقسرها على الصيام رغم زيادة الألم عليه واشتداد المرض به، ولكنه ما ينفك يسأل نفسه عما إذا كان عليه من حرج في إفطاره.

وقد بين الله حكم ذلك في كتابه العزيز بيان خصوص وعموم؛

 

فأما الخصوص ففي قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وللفقهاء آراء عدة سنراها حول المرض المراد في الآية، ولكنهم متفقون على أن المرض المُجهِد مبيح للإفطار، وأن الصيام مع المرض ترك لليسر، وفعل مع العسر على خلاف ما أراد الله لعباده([1]).

وأما بيان العموم فهو قول الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وهذه الآيات في مجملها أحكام بينة المعنى واضحة الدلالة في أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف عباده ما لا يستطيعون ولا يحملهم ما لا يطيقون، فهو أعلم بحالهم وأدرى بقوتهم وضعفهم، ولا يريد منهم إلا ما يقدرون على فعله.

وفي المذهب الحنفي: أن المرض المرخص به هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم، فرجل خاف إن لم يفطر أن تزداد عيناه وجعا أو تشتد حُماه له أن يفطر. وفي مختصر الكرخي أن المرض الذي يبيح الإفطار، هو ما يخاف منه الموت أو زيادة العلة كائنا ما كانت العلة.

وعند الإمام أبي حنيفة: إذا كانت حالته تبيح له أداء صلاة الفرض قاعدا فلا بأس له أن يفطر، والقول الجامع أن المبيح المطلق بل الموجب هو الذي يُخافُ منه الهلاك؛ لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة لا لإقامة حق الله تعالى وهو الوجوب والوجوب لا يبقى في هذه الحالة وأنه حرام فكان الإفطار مباحا بل واجبا([2]).

وفي المذهب المالكي: الإفطار على مرتبتين: جواز ووجوب، فأما الجواز فهو إذا تحقق أو ظن الصائم لتجربة في نفسه أو إخبار عدل يعرف الطب بأن المرض يزيد بالصوم أو يتأخر البرء منه، أو حصل للمريض شدة وتعب بالصوم بلا زيادة ولا تأخير برء… وأما الوجوب فهو إن خاف أي تحقق أو ظن هلاكا أو شديد أذى يتلف منفعة بصومه كبصره؛ لأن حفظ النفس والمنافع واجب([3]).

وعند الإمام الشافعي: إذا زاد مرض المريض زيادة بينة أفطر؛ أما إن كانت الزيادة محتملة فلا يباح له الإفطار([4])، وفي المذهب تتحقق الإباحة مع الضرر ويشمل ذلك زيادة المرض أو خشية طول برئه ولا إباحة إذا كان المرض يسيرا كالصداع ووجع الأذن والسن، إلا أن يخاف الزيادة بالصوم فيفطر… ومن خاف الهلاك لترك الأكل حرم عليه الصوم([5]).

وفي المذهب الحنبلي: أن المرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم، أو يخشى بطء برئه وسئل الإمام أحمد عن إفطار المريض فقال: إذا لم يستطع فقيل له: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشد منها. والضابط للمرض هو ما يخاف منه الضرر، فإن تحمل المريض وصام مع هذا فقد فعل مكروها لما في فعله من الإضرار بنفسه وتركه تخفيف الله -تعالى- له وقبول رخصته([6]).

وخلاصة ما سبق: أن المرض مبيح للفطر في حال، وموجب له في حال أخرى فإذا كان المرض مؤلما لا يتحمل المريض معه الصوم أبيح له الفطر وهو أفضل له؛ لأنه بذلك أخذ برخصة الله وتخفيفه عنه المشقة، وعليه القضاء بعد برئه. وإذا كان المرض يزداد مع الصوم ويخشى أن يؤدي إلى الهلاك وجب على المريض الإفطار؛ لأن في ذلك صيانة لنفسه وحفظ لها، وهذا الحفظ من الضرورات الشرعية الخمس التي أمر الله بالحفاظ عليها.

وينبغي التفريق بين ما إذا كان المرض مؤقتا أو دائما، فإن كان مؤقتا كما لو نزل به في شهر رمضان ثم برئ منه في أثنائه، فعليه إتمام ما بقي منه وإن استمر إلى ما بعد انقضائه قضاه بعده، وإن كان المرض متواصلا كما في المريض بالكلى أو القرحة أو نحوهما فلا قضاء عليه؛ لأن العلة المانعة للصوم لا تزال قائمة، والعلة تدور مع الحكم وجودا وعدما.

والله -تعالى- أعلم.

 

([1]) تفسير جامع البيان لابن جرير الطبري، ج2 ص150.

([2]) بدائع الصنائع، ج2 ص94، وانظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار، ج2 ص422، وشرح فتح القدير، ج2 ص350-351.

([3]) شرح منح الجليل، ج2 ص150، وانظر: الفواكه الدواني على رسالة أبي زيد القيرواني، ج1 ص320.

([4]) الأم، ج2 ص104.

([5]) نهاية المحتاج، ج3 ص185، وانظر: مغني المحتاج، ج1 ص437، والإقناع، ج1 ص209.

([6]) المغني والشرح الكبير، ج3 ص86، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع، ج2 ص310، وشرح منتهى الإرادات، ج1 ص443.