والجواب على هذا من حيث العموم: أن الله -سبحانه وتعالى-أحل لعباده الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، فقال -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}([1])، وقال -تعالى-: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}([2])، وقال -تعالى-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}([3])، والطيبات: اسم جامع لكل ما أباحه الله لعباده من طعام وشراب، والخبائث: اسم جامع -أيضًا- لكل ما حرمه عليهم من طعام وشراب، وتحقق معرفة الطيب، وتمييزه من الخبيث بأربعة أوجه:
الوجه الأول: ما ورد على وجه الخصوص في كتاب الله الكريم عن بعض الحيوانات، وتخصيصها لأغراض معينة، وهي: الخيل والبغال والحمير في قوله -تعالى-: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون}([4])، فبهذا النص خصصت منافعها حكمًا بالركوب والزينة فقط، فأصبحت في ذاتها غير مباحة للأكل.
الوجه الثاني: ما ورد على وجه العموم أمرًا ونهيًا في كتاب الله الكريم، فأما الأمر فهو قوله -تعالى-: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِين}([5])، وأما النهي فهو قوله -تعالى-: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}([6])، والنهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه ليس لحرمة الحل المراد الأكل منه، وإنما لعلة وردت عليه، هي عدم التسمية فيه بذكر الله([7]).
الوجه الثالث: ما ورد على وجه العموم في سنة رسول الله -ﷺ-، فعن خالد بن الوليد أن رسول الله -ﷺ- نهى يوم خيبر عن أكل لحوم البغال والحمر، وكل ذي ناب من السبع، أو مخلب من الطير([8])، وهذا الحكم جامع لحرمة أكل هذه الأنواع من الحيوانات والطيور، بصرف النظر عن أوصافها ومسمياتها، أو المكان الذي توجد فيه.
الوجه الرابع: ما ورد على سبيل المنع المترتب من علة وردت على المباح، ومن ذلك: لحوم الحيوانات المباحة عندما تغلب النجاسة في أكلها؛ استدلالًا بما روي أن رسول الله -ﷺ- نهى عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها([9])؛ لما يصيب لحمها من تغير ونتن.
والسؤال في هذه المسألة: هل ينجس الغذاء بمجرد تعرضه للنجاسة، أو أن العبرة بتأثيرها فيه، كتغير طعمه أو لونه أو ريحه؟.
لقد تنازع الفقهاء في ذلك:
ففي المذهب الحنفي: أن العبرة بـ”التغير”، كتغير اللحم ونتنه، فالدجاج مثلًا قد يتناول النجاسة، ولكن لا تغلب عليه، بل يخلطها بغيرها، وهو الحب، فيأكل ذا وذا، فلهذا لا يكره، وعدم كراهيته لكونه لا ينتن، والجدي لو رضع لبن خنزير حتى كبر فلا يكره أكله؛ لأن لحمه لا يتغير، ولا ينتن، فهذا يدل على أن الكراهة لمكان (التغير والنتن)، لا لتناول النجاسة، ولهذا إذا خلطت لا يكره؛ لأنها لا تنتن، فدل ذلك على أن العبرة للنتن، وليست لتناول النجاسة([10]).
وفي المذهب الشافعي: العبرة بـ”التغير”، فإذا ظهر تغير في لحم الحيوان آكل النجاسة من طعم أو لون أو ريح حرم أكله، وما تولد منه([11]).
وظاهر المذهب الحنبلي أن النجاسة إذا وقعت في مائع غير الماء نجسته وإن كثر، وقد سئل الإمام أحمد عن كلب ولغ في سمن أو زيت، فقال: إذا كان في آنية كبيرة فلا بأس، وإذا كان في آنية صغيرة فلا يؤكل. وعنه رواية أخرى: أن ما أصله الماء كالخل يدفع النجاسة عن نفسه إذا كثر، وما ليس أصله الماء لا يدفع عن نفسه. وقد سئل رحمه الله عن خباز خبز خبزًا، فباع منه، ثم نظر في الماء الذي عجن فإذا فيه فأر. فقال: لا يبيع الخبز من أحد، وإن باعه استرده، فإن لم يعرف صاحبه تصدق بثمنه([12]).
ويقول الإمام ابن القيم: “إن الذي تقتضيه العقول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينحبس؛ فإنه باق على أصل خلقته، وهو طيب، فيدخل في قوله -تعالى-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}، وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة، فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون ولا طعم ولا ريح”([13]).
وعلى هذا فالغالب في آراء الفقهاء أن المحرم هو تأثير النجاسة فيما تقع فيه، وهذا التأثير يكون بـ”تغير” الطعم أو اللون أو الرائحة، وإذا أخذنا هذا على إطلاقه لوجدنا أن هناك محظوراتٍ تدخل في صناعة الغذاء، فلا تغير من لونه أو طعمه أو ريحه شيئًا، فبعض الدهون أو المواد المحرمة قد تضاف إلى أنواع من الغذاء لحفظها مدة أطول، ولكنها لا تغير منها شيئًا، وحتى مع فرض (تغييرها) للطعم أو اللون أو الرائحة فقد تضاف إليها مواد أخرى كيماوية أو نحوها ينتفي معها هذا التغير، فهل يقال عندئذ بحلها؟.
إن مسألة الطعم واللون والرائحة قد لا تكون معيارًا كافيًا في ظل المستحدثات العلمية المعاصرة؛ لهذا فإن السؤال ينبغي أن ينصب على ما إذا كانت المواد المحظورة أو النجسة عالقة في الطعام أو الشراب المضافة إليه، والأقرب للعقل والمنطق أنها تظل عالقة، فمياه المجاري مثلًا -وهي في الأصل نجاسة- تبدو في ظاهرها بدون طعم أو لون أو رائحة، ولكنها تظل محتفظة بأصلها كلًّا أو جزءًا رغم عملية التطهير والفرز، بدليل ما تحدثه من آثار وأمراض معقدة نتيجة تناول منتجاتها من خضروات وغيرها.
ولعل ما رآه الإمام أحمد فيما روي عنه من عدم بيع الخبز الذي عُجِن بماء وقعت فيه نجاسة، هو الأقرب للصواب، وأحفظ للطهارة، وأسلم للدين والنفس والعقل، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. والله أعلم.
([1]) سورة المائدة من الآية 4.
([2]) سورة المائدة من الآية 5.
([3])سورة الأعراف من الآية 157.
([6]) سورة الأنعام من الآية 121.
([7]) وللفقهاء عدة آراء في المقصود بالتسمية، وقد استدل جماعة منهم على أن التسمية ليست بواجبة، ولكن إذا كان التارك عامداً مستخفًّا بها فلا تؤكل ذبيحته.
([8]) أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، وباب أكل كل ذي ناب من السباع، بأرقام: (5525، 5526، 5528، 5530)، فتح الباري، ج9 ص569-573، وأخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب في أكل لحوم الخيل، برقم (3788، 3789)، سنن أبي داود، ج3 ص351.
([9]) أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجَلَّالة، برقم (3785)، سنن أبي داود، ج3 ص351، صححه شعيب الأرنؤوط في تخريج سنن الدارقطني، (٤٧٥٣).
([11]) نهاية المحتاج لشمس الدين الأنصاري، ج8 ص156.