ومفاد هذه المسألة: سؤال عن الذي يقترض، أو يستدين، أو يتعامل مع الآخرين بيعًا وشراءً، ثم ما يلبث أن يذهب إلى القضاء؛ ليثبت إعساره، ويتخلص من المطالبة، وما ينبغي للمقرض أو الدائن أن يفعله في هذه الحالة.

حكم من اقترض أو استدان من آخر مالًا، ثم ادعى الإعسار

والجواب عن هذا من وجهين: الأول: المدين المماطل، والثاني: المدين المعسر.

فالمدين المماطل هو من يقترض، أو يستدين، أو نحو ذلك مما يترتب عليه لهذا السبب حقوق لغيره، ولكنه لا يؤديها في آجالها رغم قدرته على الوفاء بها، وظاهرة النكوص عن الوفاء بالدين رغم القدرة على الوفاء به ظاهرة إنسانية قديمة، تنتج إما عن فساد سلوك، أو تقلب الأحوال، أو سوء العلاقة بين الدائن والمدين.

وصعوبة هذه الظاهرة واضحة بالنسبة لصاحب الحق، فالمقرض عندما يقرض آخر إنما يفعل ذلك بدافع الشفقة عليه، والدائن عندما يدفع ماله إلى المدين إنما يدفعه إليه ليقضي به حاجته، بصرف النظر عن كونه يستفيد من دينه، وحاجة المقرض والدائن إلى مالهما حاجة مفترضة، وعدم الوفاء به يسبب لهما خسارة كبيرة، إما لكونهما محتاجين إليه لسداد حوائجهما، أو لكونهما يريدان استثماره وتنميته، وهكذا.

والمدين إما أن يكون معسرًا -كما نرى-، أو موسرًا، فإن كان كذلك، ولم يؤد ما عليه من دين، فقد أكل مال غيره بالباطل، وعصى الله بعدم امتثاله لنهيه في قوله -تعالى-: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 188]، وقوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، وأكل أموال الناس بالباطل ظلم لهم، واعتداء، وتجاوز عليهم، وفي ذلك قال -تعالى-: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19]، وقال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: (مطل الغني ظلم)([1])، ووقوع الظلم يوجب دفعه ورفعه عمن وقع عليه، قال -تعالى-: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251].

والدفع يكون بالوسائل الشرعية، وفي ذلك قال رسول الله -ﷺ-: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)([2])، والمقصود بحل عرضه شكايته إلى من يقدر عليه، كما أن المقصود بعقوبته حبسه وزجره.

وللفقهاء أقوال كثيرة في مسألة وفاء الدين، والمدين المماطل.

ففي المذهب الحنفي: يحبس إذا برهن دائنه على غناه، والمقصود بالغنى قدرة المدين على الوفاء، ولو باقتراض، أي: أنه إذا وجد من يقرضه لوفاء دينه، فلم يفعل، فهو ظالم، وكذا لو كان له حرفة يستطيع بها قضاء دينه، فامتنع عنها لا يعذر([3]).

وفي مذهب الإمام مالك: إذا ادعى المدين العدم لم يقبل منه؛ لأن الناس محمولون على الملاء حتى يثبت عدمهم، ويجب على المدين أن يعطي دائنه رهنًا أو ضامنًا بوجهه، وإلا وجب سجنه حتى يتبين عدمه([4])، ويظهر ملاء المدين من جمال لبسه وخدمه، وعدم علم حقيقته أمره، وإن شهدت بينة بملائه، وبينة بعدمه رجحت بينة الملاء على بينة العدم([5]).

وفي مذهب الإمام أحمد: إذا امتنع المدين الموسر عن قضاء دينه فلدائنه ملازمته، ومطالبته، والإغلاظ له بالقول بدلالة قول رسول الله -ﷺ-: (ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)([6]).

الوجه الثاني: المدين المعسر: وهو من يقترض، أو يستدين، أو يترتب عليه بأي وجه حقوق لغيره، فلا يستطيع أداءها لعسره، وقد أمر الله بالصبر عليه في قوله -تعالى-: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 280]، وفي هذه الآية ثلاثة أحكام:

الحكم الأول: وجوب إنظار المعسر إلى حين قدرته؛ لأن العسر في المال عدم له، وليس مع العدم قدرة.

الحكم الثاني: أن يكون إنظار المعسر مجردًا من أي عقوبة عليه، خلافًا لما كان سائدًا في الجاهلية من الزيادة عليه، حين كان أحدهم يقول لمدينه: إما أن تقضي الدين، وإما أن تربي عليه، أي: تزيد فيه.

الحكم الثالث: الحث على الصدقة والشفقة على المدين بوضع ما عليه؛ لما في ذلك من الأجر والثواب.

والأحاديث في ذلك كثيرة، منها: ما رواه أبو قتادة أن رسول الله -ﷺ-قال: (من نفس عن غريمه، أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة)([7])، وما رواه حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-عن النبي -ﷺ-قال: (إن رجلًا مات، فدخل الجنة، فقيل له: ما كنت تعمل)؟-قال: فإما ذكر، وإما ذُكر-فقال: (إني كنتُ أبايع الناس، فكنتُ أُنظر المعسر، وأتجوز في السكة أو في النقد، فغُفر له)، فقال أبو مسعود: وأنا سمعته من رسول الله -ﷺ-([8]).

وللفقهاء أقوال كثيرة في مسألة عسر المدين، ووجوب إنظاره إلى ميسرته.

ففي المذهب الحنفي: أن العسرة هي الأصل؛ لأن الإنسان يولد فقيرًا، لا مال له، فإذا ادعى المدين العسر وجب إنظاره بعد توفر البينة عن عسره([9]).

وفي مذهب الإمام مالك: إذا ثبت عدمه بشهادة الشهود العدول، وحلف أنه ما لَهُ مال ظاهر ولا باطن، سرح، وسقط عنه الطلب حتى يستفيد مالًا، ويؤدي منه([10]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا ثبت إعسار المدين وجب إنظاره، وعدم ملازمته، ولا يحبس إذا عُرِفَ أنه لا شيء له؛ لأن الله -تعالى-يقول: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]([11]).

وفي مذهب الإمام أحمد: إذا ثبت عند الحاكم إعسار المدين وجب إنظاره؛ بدلالة الآية السابقة، وبالتالي لم تجز مطالبته، ولا ملازمته؛ لأن الإنظار يقتضي عدم الملازمة، مثله في ذلك مثل صاحب الدين المؤجل([12]).

وخلاصة ما سبق: أن المدين الموسر ملزم ديانةً وقضاءً بقضاء دينه، فإن لم يفعل أصبح مماطلًا ظالمًا، وحق للدائن مطالبته، وحل له عرضه، أي: القول في عرضه بالإغلاظ، وحل له كذلك طلب عقوبته أي حبسه.

أما المدين المعسر فيجب إنظاره إلى حين يسره؛ بدلالة قول الله -تعالى-: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، وفي التصدق عليه بوضع ما عليه من دين كلًّا أو جزءًا أجر عظيم؛ لقول الله -تعالى-: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون}، ولما ورد عن رسول الله -ﷺ- من أحاديث كثيرة تدل على فضل التيسير على المعسر، والوضع عنه.

وينبغي الإشارة إلى ما يفعله بعض الأشخاص من عدم التورع عن أخذ أموال الناس بحجة القرض أو الدين، ثم الادعاء بالعسر بعد إفساد هذه الأموال بالتبذير، أو وضعها فيما لا فائدة لهم منه، فهؤلاء يعتبرون ظلمة متعدين، يستحقون العقوبة المناسبة التي تردعهم عن هذا الفعل.

والله أعلم.

([1]) أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب “مطل الغني ظلم”، برقم (2400)، فتح الباري ج5 ص 75.

([2]) أخرجه البخاري بصيغة التمريض في كتاب الاستقراض، باب “لصاحب الحق مقال”، قال الحافظ ابن حجر: “والحديث المذكور وصله أحمد وإسحاق في مسنديهما، وأبو داود والنسائي من حديث عمر بن الشريد بن أوس الثقفي عن أبيه بلفظه، وإسناده حسن، وذكر الطبراني أنه لا يروى إلا بهذا الإسناد”، فتح الباري ج5 ص 75-76، وأخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره، برقم (3628)، وقال: “قال ابن المبارك: يحل عرضه: يغلظ له، وعقوبته: يحبس له”، سنن أبي داود ج3 ص314، وانظر: بحثًا في “مطل الغني ظلم يحل عقوبته وعرضه” للشيخ/ عبد الله بن سليمان بن منيع، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 12، السنة الثالثة، 1412هـ، ص7.

([3]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين مع التكملة، ج5 ص384.

([4]) القوانين الفقهية لابن جزي، ص209.

([5]) شرح منح الجليل على مختصر خليل، ج6 ص50-55.

([6]) المغني والشرح الكبير، ج4 ص502-505.

([7]) مسند الإمام أحمد، ج5 ص308، وتمام الحديث: “أن أبا قتادة كان له على رجل دين، وكان يأتيه يتقاضاه، فيختبئ منه، فجاء ذات يوم، فخرج صبي، فسأله عنه، فقال: نعم! هو في البيت يأكل خزيرة، فناداه: يا فلان! اخرج، قد أُخبرتُ أنك ههنا، فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟، فقال: إني معسر، وليس عندي، قال: آللهِ إنك معسر؟، قال: نعم!، فبكى أبو قتادة” صححه الألباني، صحيح الترغيب، (٩١١)..

([8]) متفق عليه، أخرجه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب فضل إنظار المعسر، والتجاوز في الاقتضاء، صحيح مسلم بشرح النووي، ج10 ص 225، وأخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب حُسن التقاضي، صحيح البخاري ج3 ص 83.

([9]) حاشية رد المحتار، ج5 ص384.

([10]) القوانين الفقهية لابن جزي، ص 290، وشرح منح الجليل ج6 ص 50-55.

([11]) الأم للإمام الشافعي، ج3 ص212-213.

([12]) الشرح الكبير على المغني للإمام عبد الرحمن بن قدامة، ج4 ص462.