ومفاد هذه المسألة: سؤال عما يفعله رب العمل إذا فوض وكيله بالتعاقد مع شخص أو أشخاص للعمل لديه، ثم ظهر له أن الوكيل تعاقد معهم دون تحديد أجورهم، ثم وجد أنهم يطلبون أجرًا كبيرًا، ومثل ذلك: ما يفعله بعض مكاتب استقدام العمال من استقدام عمال لموكليهم، مع إهمال تحديد أجورهم عند العقد؛ مما يكون مظنة النزاع بينهم وبين أرباب عملهم.

حكم الاتفاق على أداء عمل دون تحديد أجره

والجواب: أن من القواعد الشرعية في العقود: وجوبَ كونِها معلومة؛ لما تفضي إليه الجهالة فيها من النزاع بين أصحابها، فالمبيع في عقد البيع، والمأجور في عقد الإجارة مثلًا يجب أن يكونا معلومين بالضرورة، والعلم يحصل بتعيين محل العقد، أو الإشارة إليه، أو بيانه بيانًا يحصل به العلم، وتنتفي معه الجهالة، وقد بين ذلك رسول الله -ﷺ- فيما رواه عنه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره([1])، والحكمة في ذلك واضحة في أن تعيين الأجر يفضي إما إلى القبول، فيحصل به الرضا، أو إلى عدم القبول، فينتفي معه النزاع.

واستدلالًا بالحديث السابق يوجب الفقهاء العلم بالأجرة.

ففي المذهب الحنفي: لو استأجر دابة بأجر معلوم بعلفها لم يجز؛ لأن العلف في هذه الحالة يصير أجرة، وهو مجهول، فكانت الأجرة مجهولة([2]).

وفي مذهب الإمام مالك: لا تجوز الإجارة إلا بأجرة مسماة([3])، فإذا لم تعين الأجرة ابتداء للخياط، وكراء الحمام تفسد الإجارة، وفي سماع ابن القاسم عن الإمام مالك أنه سُئِل عن الخياط الذي بينه وبين صاحب الثوب خلطة، ولا يكاد يخالفه، فيستخيطه الثوبَ، فإذا فرغ منه، وجاء به، أرضاه بشيء يدفعه إليه، فقال: لا بأس بذلك؛ لأن الناس استجازوه، ومضوا عليه، وهو نحو ما يعطى في الحمام من غير مشارطة، وأن المنع من هذا فيه تضييق على الناس، وحرج في الدين، وغلو فيه، والله  -تعالى-يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]([4]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: يشترط في الإجارة كون الأجرة معلومةً جنسًا وقدرًا وصفةً([5]).

وفي مذهب الإمام أحمد: “يشترط في عوض الإجارة كونه معلومًا؛ لأنه عوض في عقد معاوضة، فوجب أن يكون معلومًا كالثمن في البيع”([6]).

وفي المذهب الظاهري: لا تجوز الإجارة إلا بمضمون مسمى محدود في الذمة، وأجاب الإمام ابن حزم على قول الإمام مالك بجواز كراء الأجير بطعامه لخبر أبي هريرة: “كنت أجيرًا لابنة غزوان بطعام بطني، وعقبة رجلي”، أجاب بأن هذا “تكارم من غير عقد لازم، أما العقود المقضيُّ بها فلا تكون إلا بمعلوم”، ويختلف الطعام في لينه وخشونته كما تختلف الأدم، ويختلف الناس في الأكل اختلافًا متفاوتًا، فهو مجهول لا يجوز([7]).

وينبني على ما سبق من قول رسول الله -ﷺ-: (من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره)([8])، وما بنى عليه الفقهاء من أقوال “أن الإجارة تفسد في حال جهالة الأجر”، وعندئذ يكون للمأجور أجر المثل بالغًا ما بلغ([9]).

والمعول عليه في ذلك ما عليه أمر الناس، فقد سُئِل الإمام مالك عن الخياطين والعمال بأيديهم في الأسواق: إذا دُفِعَ إلى أحدهم العمل ليعمله بأجر، ولم يكن بينهما شرط بنقد أو غير نقد، فطلب الخياط تعجيل الأجرة، وأبى صاحب العمل إلا بعد إتمام العمل، فقال الإمام مالك: “يحملان على أمر الناس عندهم، فإن كان ذلك عندهم غير معروف لم يجبر رب العمل على أن يدفع..؛ لأن لأهل الأعمال سننهم يحملون عليها”([10]).

وخالف في أجر المثل بعض أصحاب الإمام الشافعي، فلم يوجبوه في الإجارة الفاسدة، فلو عمل العامل لغيره عملًا بإذنه-كما لو دفع صاحب الثوب ثوبًا إلى خياط ليخيطه، أو قصار ليقصره-، ففعل، ولم يذكر أي منهما أجرة للعمل، فلا أجرة له، ويصبح الخياط والقصار في حكم المتبرع.

وقال البعض الآخر منهم: له أجر المثل إذا كان معروفًا بذلك العمل، وعولوا في ذلك على العرف؛ لقيامه مقام اللفظ([11]).

وفي مذهب الإمام أحمد: يجب أجر المثل في حال عدم تعيين الأجر، فلو دفع صاحب ثوب ثوبه إلى خياط ليخيطه، أو قصار ليقصره، دون أن يكون بينهما عقد، أو شرط، أو تعريض بأجر، كما لو قال: خذ هذا الثوب فاعمله، وأنا أعلم أنك إنما تعمل بأجر، ففعل الخياط أو القصار ذلك فقد استحقا الأجر حسب العرف؛ لكونه يقوم مقام القول، فصار كنقد البلد، ويشترط لاستحقاقه كون الخياط والقصار منتصبين لهذا العمل، أي: قد اتخذاه مهنة أو عملًا لهما، فإن لم يكن كذلك لم يستحقا الأجر إلا بعقد، أو شرط العوض، أو التعريض به؛ لأنه لم يجر بذلك عرف، فصار في حكم المتبرع([12]).

قلت: والمقصود بذلك العرف في ذلك الزمان، فإن تغير العرف بمعنى أن الخياط ومن في حكمه صار يستحق أجر المثل في حال عدم تعيين الأجرة، حتى وإن لم يكن منتصبًا أو متفرغًا للعمل، فعندئذ لا يعتبر متبرعًا، ويستحق أجره.

ولا شك أن من العدل إعطاءَ العامل أجر المثل في حال عدم تعيين أجره، حتى وإن لم يكن منتصبًا للعمل؛ لأن هذا الأجر مقابل منفعة حصل عليها صاحب العمل، ولقاء مشقة تكبدها العامل، فلا يحل لأحد أن ينتفع على حساب آخر بدون حق، ما لم يكن هذا متبرعًا صراحة.

ومما سبق يتضح أن على رب العمل أو وكيله (مكتب الاستقدام ومن في حكمه) تحديدَ أجر العامل المستقدم للعمل، بحيث يكون معلومًا له ولرب العمل مقدار الأجر وجنسه؛ لتفادي ما قد ينشأ بينهما من نزاع، فإن لم يفعلا ذلك فللعامل المستقدم أجر المثل من فئته، فإن كان مزارعًا وجب له مثل أجر المزارع، وإن كان سائق سيارة وجب له مثل أجر السائق، وإن كان عامل منزل وجب له أجر مثله، وهكذا.

وخلاصة المسألة: أن من المهم في عقد الإجارة بيان الأجر فيه، بحيث يكون معلومًا للآجر والأجير؛ دفعًا لاحتمال النزاع بينهما، فإن لم يتضمن العقد بيان الأجر أصبحت الإجارة فاسدة، ويستحق العامل أجر المثل من فئته وفقًا للعرف السائد في الزمان والمكان.

والله أعلم.

 

([1]) أخرجه الإمام أحمد في مسند أبي سعيد الخدري، المسند ج3 ص59، حسنه السيوطي في الجامع الصغير، (٩٣٩٣).

([2]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني، ج4 ص193، ط2، 1402هـ، ونتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لقاضي زاده، ج9 ص41.

([3]) المدونة الكبرى رواية الإمام سحنون، ج3 ص355.

([4]) انظر فيما ذكر عن رأي الإمام مالك: شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل للشيخ عليش، ج7 ص433.

([5]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج5 ص266.

([6]) المغني والشرح الكبير، ج6 ص11.

([7]) المحلى بالآثار للإمام ابن حزم، ج7 ص32.

([8]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الإجارة، باب “لا تجوز الإجارة حتى تكون معلومة، وتكون الأجرة معلومة”، ج6 ص 120، وهو عند أحمد، وأبي داود في المراسيل من وجه آخر، وهو عند النسائي في المزارعة غير مرفوع.

([9]) نتائج الأفكار، ج9 ص91-92.

([10]) المدونة، ج3 ص415.

([11]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج5 ص311.

([12]) المغني، ج6 ص145-146.