والجواب على هذه المسألة من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إجراء التجارب الطبية لمصلحة المريض.
قبل الحديث عن جواز هذه التجارب أو عدم جوازها يجب القول: إن النفس ملك لله -عز وجل-، فهو خالقها من العدم؛ لقوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسمًّى}([1])، وهو منشئها، وفي ذلك قال -تعالى-: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ}([2])، وهو مصورها على نحو تتميز به عن صور المخلوقات الأخرى، وفي ذلك قال -تعالى-:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}([3]).
والملك في عمومه يقتضي الحصر للمالك، والمنع لغيره؛ لأن حق المالك حق مطلق، لا يقبل التجاوز أو التعدي عليه أو التصرف فيه إلا بإذنه، والمالك أدرى وأعرف بملكه، ولا يأذن لأحد يتصرف فيه إلا لمصلحة يقدرها ويراها، وقد يضع المالك ملكه أمانة مؤقتة، وعلى الأمين ألا يتجاوز عليها، بل عليه حفظها إلى أن يستردها مالكها إليه، والنفس أمانة عند صاحبها، والأمانة تقتضي عدم الخيانة من الأمين، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ}([4])، والأمانة تقتضي -أيضًا- عدم التعدي عليها من الغير، وفي ذلك نهى الله عن الاعتداء في قوله -تعالى-: {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين}([5])، والنهي عن الاعتداء نهي مطلق يشمل كل اعتداء على النفس، سواء كان ماديًّا أم معنويًّا، والمادي يشمل كل فعل يؤذيها سواء كان كبيرًا أم صغيرًا، مباشرًا أم غير مباشر.
والمعيار في التعدي المحرم هو كل ما كان فيه أذى أو ضرر للنفس، أما إذا كان القصد منه مصلحة ظاهرة فلا يعد تعديًا، وإن كان في مفهومه اللغوي كذلك، وبمعنى آخر: إذا تعدى الطبيب على المريض، وأخذ عيِّنةً من دمه أو سوائله لتحليلها، أو أخذ قطعة من لحمه لمعرفة آثار مرضه أو نحو ذلك مما يستدل منه على طبيعة المرض وتشخيصه، فذلك مباح؛ لأن العلة فيما فعل (مصلحة المريض، وابتغاء علاجه من المرض).
ولكن نتائج التجارب التي يجريها الطبيب تعتبر ملكًا للمريض، ومن خصوصياته؛ وينبني على هذا عدم حق الطبيب في ملكية هذه النتائج، أو الإفصاح عن اسم صاحبها، ولكن يحق له الاستفادة منها في علاج مريض آخر، أو في البحوث الطبية، طالما أنه ليس هناك ضرر يطال المريض الذي أجريت عليه التجارب.
الوجه الثاني: إجراء التجارب الطبية على المريض لغرض التقدم الطبي:
ومن ذلك: أن يقوم الطبيب الذي يتولى علاج مريضه بإجراء التجارب الطبية عليه، إما لرغبته الشخصية في اكتشاف علاج لنوع من المرض، أو لرغبته خدمة الطب أو نحو ذلك مما ليس الغرض الأساسي منه علاج المريض، ففي كل هذه الأحوال لا يجوز له إجراء هذه التجارب، فإن فعل ذلك عُدَّ متعديًا، ولا فرق بين أن يكون المتعدَّى عليه كبيرًا أو صغيرًا، قويًّا أو ضعيفًا.
والأساس في هذا (تحريم الإضرار بإنسان لجلب نفع لآخر)، فقد تؤدي هذه التجارب إلى موتِ مَنْ أُجريت له، أو الإضرار به، فإن كانت هذه التجارب لمصلحة الطبيب نفسه فهو بمثابة القاتل، ويضمن فعله قياسًا على ضمان من يحفر بئرًا في الطريق أو في ملك غيره بلا إذنه، أو يضع في الطريق حجرًا، أو يصب فيه ماء أو نحوه مما يعرض الغير للخطر، فما ينتج عن ذلك من ضرر يضمنه الفاعل ([6]).
وإن كانت هذه التجارب لمصلحة الطب وتقدمه مما يعود على الناس بالمنفعة فهو -أيضًا- بمثابة القاتل؛ لأن تقدم الطب ومنفعة الناس لا تبرر التعدي على إنسان، والإضرار به، فهلاكه بدون حق يساوي هلاك الناس جميعًا، وحياته تساوي حياتهم جميعًا بدلالة قول الله -تعالى-: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}([7]).
وينبني على هذا أن النفس معصومة من القتل والضرر إلا بحق، ومن تعدى عليها بغير ذلك وجب جزاؤه، سواء كان المعتدي واحدًا أو أكثر، وقد قتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا واحدًا، وقال قولته الشهيرة: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا([8]).
وعلى هذا لا يجوز للطبيب الذي يتولى علاج أحد المرضى إجراء أي نوع من التجارب الطبية عليه ما لم يكن ذلك لعلاج مرضه، فإن فعل ذلك ضمن كل ما ينشأ للمريض من ضرر، سواء كان هذا الضرر ماديًّا أم معنويًّا.
الوجه الثالث: مدى حق المريض في الإذن بإجراء التجارب الطبية عليه:
قد يأذن المريض أو الصحيح للطبيب أن يُجْرِي عليه نوعًا من التجارب الطبية، فهل يعتبر إذنه هذا مانعًا لأي مسؤولية قد تترتب نتيجة هذه التجارب؟.
الأصل -كما مر ذكره- أن النفس ملك لله -عز وجل-، لا يحق لأحد أن يتصرف فيها إلا لمصلحتها فيما أذن فيه الشرع وبينه، ولهذا حرم الإسلام الانتحار، وكل ما يفعله الإنسان من إيذاء أو ضرر لنفسه، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}([9])، وقال -عز وجل-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ}([10])، وفي هاتين الآيتين الكريمتين نهي عام عن القتل، سواء كان من الإنسان ضد نفسه، أم ضد غيره.
وقد بين رسول الله -ﷺ- عقوبة من ينتحر بقوله: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»([11]).
وحيث إن رضا الإنسان بإجراء التجارب عليه يعتبر من الأخطار التي تعرض النفس للهلاك فإن قواعد الشريعة تمنع ذلك([12])، ولكنه يحق لمن أجريت عليه التجارب أن يعفو عن الفعل، فتسقط بذلك مسؤولية الطبيب، وهذا قياسًا على أن لولي المقتول أو المعتدى عليه في ضرب أو خلافه العفوَ عن العقوبة.
وخلاصة المسألة: أن النفس ملك لله -عز وجل-، ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليها، أو يتصرف فيها إلا بما أذن فيه الشرع، ومن ذلك: علاجها من المرض، وينبني على ذلك أن الطبيب ومن في حكمه إذا أجرى تجربة على دم المريض، أو على سوائله، أو على جزء من جسده لغرض علاجه؛ فذلك جائز؛ لأن هذا من باب التداوي الذي أمر به الشرع.
أما إذا كان قصد الطبيب ومن في حكمه إجراء التجارب لرغبة شخصية، أو لغرض تقدم الطب ونحو ذلك، فهذا يعتبر تعديًا على النفس، ويضمن الفاعل ما ينتج عن ذلك من ضرر لها، وإذن المعتدى عليه لا يبرر الفعل، إلا أن يعفو عن ذلك بعد وقوعه. والله أعلم.
([1]) سورة الأنعام من الآية 2.
([3]) سورة التغابن من الآية 3.
([4])سورة الأنفال من الآية 27.
([5]) سورة المائدة من الآية 87.
([6]) انظر: المغني والشرح الكبير، ج9 ص564-565، وكشاف القناع، ج6 ص6-7، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، ج7 ص359، وبدائع الصنائع، ج7 ص278، ومنح الجليل، ج9 ص22.
([7]) سورة المائدة من الآية 32.
([8]) كنز العمال، كتاب القصاص والقتل والديات والقسامة، برقم (40178) ج15 ص79، قال ابن المنذر في الأوسط، (١٣/٦٥): ثابت.
([9]) سورة النساء من الآية 29.
([10]) سورة الإسراء من الآية 33.
([11]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطب، باب النهي عن الدّواء الخبيث، برقم (3460)، ج2 ص1145، وأخرجه الترمذي في كتاب الطب، باب ما جاء فيمن قتل بِسُمٍّ أو غيره، سنن الترمذي، ج4 ص338.
([12]) وفي مذهب الإمام أبي حنيفة والإمام مالك وقول للشافعي أن إذن الإنسان بقتله لا يبرر القتل؛ لأن المقتول لا يملك الحق في ذلك، كما أن الإذن بالجرح وغيره لا يبرر للفاعل فعله، ويستثني الإمام أبو حنيفة الإذن بالجرح، ويرى فيه عدم العقوبة، وفي مذهب الإمام أحمد: لا عقوبة على الفاعل في قتل أو جرح إذا أذن له صاحبها. انظر في هذا: بدائع الصنائع، ج7 ص236-237، ومنح الجليل، ج9 ص10، ونهاية المحتاج، ج7 ص260-261، وكشاف القناع عن متن الإقناع، ج5 ص518.