ومفاد هذه المسألة سؤال عما إذا كان يجوز لأي مكتبة أو مطبعة أو دار نشر أو فرد أو غيرهم إعادة طبع كتاب، أو تصويره، وبيعه دون إذن صاحبه أو ورثته.

حكم من طبع أو صوَّرَ كتابًا دون إذن صاحبه أو ورثته

هذا السؤال ينصب -كما يبدو- على ما تتعرض له الكتب ونحوها في هذا الزمان من إعادة طباعتها، أو تصويرها دون إذن أصحابها أو ورثتهم؛ مما أصبح من القضايا المهمة في هذا الزمان، ويبدو من وقائع هذه القضايا أنها تتلخص في ثلاث صور:

الصورة الأولى: التعرض لمؤلفات الأحياء وإنتاجهم الفكري بإعادة طباعتها، أو تصويرها، وبيعها بطرق مدروسة، يصعب معها التفرقة بين تصويرها وطبعتها السابقة، وبالتالي يصعب معرفة الطابع أو الناشر الأخير لها.

والصورة الثانية: التعرض لمؤلفات الأموات ممن لهم ورثة أحياءٌ، وإعادة طباعتها أو تصويرها، كما هو الحال في الصورة الأولى.

والصورة الثالثة: إعادة طباعة أو تصوير مؤلفات الأموات ممن ليس لهم ورثة أحياء، ولعل هذا هو الغالب الأعم؛ لانتفاء احتمالات المطالبة أو النزاع فيه.

ولأهمية قضايا التعرض للمؤلفات والإنتاج الفكري أُلِّفَتْ كُتُبٌ،

 

وعُقِدت اتفاقات دولية؛ للحفاظ على حقوق المؤلفين وورثتهم.

ويهمنا هنا موقف الفقه الإسلامي من هذه القضايا، فقد بحث الفقهاء سرقة الكتب باعتبارها مالًا منقولًا يمكن إحرازه، ونقله، والتصرف فيه، وقد تباينت آراؤهم في مسألة (القطع) في سرقة الكتب:

ففي المذهب الحنفي: لا قطع في سرقة المصحف، أو أي صحيفة فيها حديث أو علوم عربية أو شعر، فالمصحف الكريم يُدَّخَرُ لا للتمول، بل للقراءة، والوقوف على ما يتعلق به مصلحة الدين والدنيا، وصحيفة الحديث والعلوم العربية والشعر يقصد بها معرفة الأمثال والحكم، ولا يقصد بها التمول، فلا يعتبر ذلك سرقةً، وبالتالي لا يجب القطع، وهذا على خلاف دفاتر الحساب والدفاتر البيض، حيث يجب فيها القطع إذا بلغت قيمتها نصابًا؛ لأن ما فيها ليس مقصودًا بالأخذ، وإنما المقصود قدر البياض من (الكاغد)([1]).

ويرى الإمام أبو يوسف القطع في كل ذلك إذا كانت قيمة المسروق عشرة دراهم؛ لأن الناس يدخرون المصاحف الكريمة والصحف، ويعدونها من نفائس الأموال([2]).

وعند الإمام مالك: يجب القطع في سرقة المصحف؛ لكونه مالًا مملوكًا يجوز بيعه([3]).

وعند الإمام الشافعي: يجب القطع في كل مال، ما لم يكن هذا المال محرمًا، وتعتبر الكتب من الأموال، فإن كان منها ما يحرم الانتفاع به فيُقَوَّمُ ورقها وجلدها، فإن بلغ ذلك نصابًا وجب القطع([4]).

وفي المذهب الحنبلي: قول بعدم القطع في سرقة المصحف، وقول بوجوب القطع، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، فقد “سئل عمن سرق كتابًا فيه علم؛ لينظر فيه، فقال: كل ما بلغت قيمته ثلاثة دراهم فيه القطع؛ لعموم الآية في كل سارق”([5])، وهي قول الله -تعالى-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].

وقال الإمام ابن قدامة: “ولا خلاف بين أصحابنا في وجوب القطع في سرقة المصحف وكتب العلم والحديث وسائر العلوم الشرعية”([6])، والراجح عدم القطع في كتب البدع والتصاوير([7]وفي المذهب الظاهري: يجب القطع في سرقة المصحف، وكتب العلم([8]).

ويظهر من أقوال الفقهاء هذه أن المقصود بسرقة الكتب الاستيلاء عليها بذواتها كمادة منقولة، مثلها في ذلك مثل سرقة النقود والمتاع.

ومفهوم السرقة يشمل كل ما كان منقولًا، أو محسوسًا بطبعه، فالمهم هو الاستيلاء بغير حق على مال الغير فيما هو محل الانتفاع المباح، ويدخل في ذلك كل ما ينتفع به كالهاتف، والكهرباء، والعلامات التجارية، والخرائط، وطباعة الكتب، وتصويرها، ونحو ذلك من الرسوم والصور غير المحرمة، فمن يسرق هذه الأشياء فقد نقل إلى ملكه شيئًا ليس من حقه أن ينقله إليه دون إذن صاحبه، ومن يطبع أو يصور كتابًا بغير إذن صاحبه أو ورثته فهو في الواقع ينقل (محتوياته) إلى ملكه بدون حق، فليس المهم في الكتاب (ورقه) أو غلافه، وإنما المهم ما كُتِب على هذا الورق؛ لأن المشتري لا يشتري الكتاب لذات ورقه، وإنما يشتريه لمحتوياته من العلم؛ لقصد تموله، والانتفاع بما فيه، فالتعدي عليه بطباعته أو تصويره يعتبر في حكم السرقة، والعلة في ذلك واضحة في أن الطابع أو المصور يستولي على (مادة) الكتاب، فينقلها إلى ملكه بغير إذن صاحبه أو ورثته.

وإذا كان الأمر واضحًا بالنسبة للمؤلفين الأحياء، أو من لهم ورثة أحياء، فما الحكم بالنسبة للكتب القديمة ممن توفي أصحابها وورثتهم، هل يجوز لأي مطبعة أو دار نشر أو فرد إعادة طباعتها أو تصويرها؟.

ربما يقال: إن الطابع أو الناشر الأول هو المالك للكتاب إذا كان قد أذِن له صاحبه أو ورثته، فهو بالتالي صاحب الحق فيه، ولكن هذا قد لا ينطبق على الكتب القديمة، وربما يقال باستحسان إعادة طباعة هذه الكتب أو تصويرها لغرض الانتفاع بما فيها من علم، ويرد على هذا بأن الحاكم ولي من لا ولي له، فقِدمُ هذه الكتب، واندراس أصحابها لا يبرر الاستيلاء عليها، بل ينبغي وضع ترتيب لها من قبل السلطة في المكان المراد إعادة طِباعتها أو نشرها فيه، باعتبارها مِلْكًا للجماعة، وتدخل في بيت مالهم.

وخلاصة المسألة: أن سرقة الكتب تعد مثل سرقة النقود والأمتعة ونحوها، ويجب فيها القطع في قول جمهور الفقهاء إذا بلغت نصابًا، ويستثنى من ذلك كتب البدع ونحوها، والصور المحرمة مما هو محظور شرعًا في أصله، ويدخل في حكم السرقة الأشياء المحسوسة مما هو محل الانتفاع المباح كما في الكهرباء، والهاتف، والعلامات التجارية، وطباعة الكتب وتصويرها، إذ إن الفائدة من الكتاب ليست في ورقه، بل في محتوياته من العلم، والمشتري لا يشتريه إلا لهذا الغرض، فمن استولى على كتاب، فأعاد طباعته أو تصويره دون إذن صاحبه أو ورثته، أو إذن السلطة بالنسبة للكتب القديمة، فهو بمثابة السارق لحق غيره.

والله أعلم.

 

([1]) الكاغد: القرطاس، وهو معرب، انظر: القاموس المحيط، للفيروزآبادي، ص402.

([2]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين الكاساني، ج7 ص28، وانظر: شرح فتح القدير للإمام ابن الهمام، ج5 ص371، وحاشية رد المحتار للإمام ابن عابدين، ج4 ص93.

([3]) المدونة للإمام مالك رواية سحنون، ج4 ص418.

([4])  أسنى المطالب، ج4 ص141، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج7 ص442.

([5]) انظر في هذا المغني والشرح الكبير للإمام ابن قدامة، ج10 ص249، ط2.

([6]) انظر: المغني والشرح الكبير ج10 ص249.

([7]) انظر الإنصاف للمرداوي، ج10 ص260، ط 1.

([8]) الإيصال في المحلى بالآثار للإمام ابن حزم، ج12 ص326.