والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: تعريف الجنين، ومتى يكون نفسا مؤمنة يحرم التعدي عليها، والأصل في هذا قول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5]، فدل هذا على أن النطفة بداية الخلق، ومدتها أربعون يوما، ثم العلقة، ومدتها أربعون يوما، ثم المضغة، ومدتها أربعون يوما، وفيها يكون اكتمال الخلق بدلالة قول الله -تعالى-: {مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}، وبدلالة ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله -ﷺ- قال: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه وعمله وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح»([1])، فدل هذا على أن تمام الخلق يكون بعد مئة وعشرين يوما، أي في نهاية مدة المضغة، وقد سُمي الحمل جنينا؛ لأنه يجتن -أي يختبئ- في بطن أمه، ويعتبر في هذه الحالة جزءا منها، لازمة له، ولكنه مُعد لأن يكون نفسا له ذمة صالحة، ويكون أهلا لوجوب الحق له، وأهمه حقه في الحياة([2])، وأكثر الآراء التي تعرف الجنين تذهب إلى وجوب «تَخَلُّقِهِ»؛ لكي تترتب له الأحكام الشرعية.
وقد اختلفوا في الخلقة الموجبة لأن يكون له تعويض «غرة»،:
فذهب الإمام مالك إلى أن الجنين هو: كل ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة، مما يُعْلمُ أنه ولد.
ويشترط الإمام الشافعي استبانة الخلقة([3]).
وفي المذهب الحنبلي: ينبغي أن يكون في الطرح صورة آدمي، فإن أسقطت المرأة غير ذلك فلا شيء فيه، وذلك لجهالة كونه جنينًا، ولكن إن ألقت المرأة مضغة، فشهدت ثقات القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة، أما إن شهدت أن الطرح مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور؛ ففيه وجهان: الأصح: أنه لا شيء فيه؛ لأنه لم يتصور بعد، فلم يجب فيه شيء كالعلقة؛ لأن الأصل براءة الذمة، فلا تشغل بالشك.
الوجه الثاني: أن فيه غرة؛ لأنه مبتدأ خلق آدمي، أشبه لو تصور([4]).
وقد توسع بعض العلماء في المذهب الحنفي في تعريف الجنين، فرأو أن الماء في الرحم ما لم يفسد فهو معد للحياة، فيجعل كالحي في الضمان بإتلافه، كما يجعل بيض الصيد في حق المحرم كالصيد في إيجاب الجزاء عليه بكسره([5])، فعلى هذا تعتبر النطفة عندهم جنينا له حق الحياة.
ولعل الأصح اعتبار الجنين نفسا مؤمنة عند بلوغه مرحلة المضغة إذا ظهر الخلق فيها؛ لدلالة قول الله -تعالى-: {مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}، وهذا لن يكون إلا بعد مئة وعشرين يوما، وهذا هو ما اتفق عليه غالب الفقهاء كما سيأتي بيانه.
الوجه الثاني: حكم الإسقاط أو الإجهاض: يحرم الإسقاط بعد مرور مئة وعشرين يوما على الحمل، فمن تعدى عليه عمدا بعد هذه المدة فقد ارتكب جريمة علي نفس مؤمنة، ويرى الإمام ابن حزم القود في ذلك إلا أن يُعفى عنه([6])، أما إذا كانت مدة الحمل أقل من مئة وعشرين يوما فللفقهاء في ذلك آراء متباينة.
ففي المذهب الحنفي: لا تجب الغرة إلا إذا كان بعض خلق الطرح قد استبان، فإن لم يستبن فلا إثم، وعند بعضهم: أنه لا أقل من أن يلحق الأمَّ إثمٌ إذا أسقطت بغير عذر، ومن الأعذار: انقطاع لبنها بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر، ويخاف هلاكه([7]).
وفي المذهب المالكي -كما ذكر آنفا-: أن الغرة تكون في طرح المضغة أو العلقة إذا عُلِم أنه ولد.
وفي المذهب الشافعي: خلاف حول إسقاط الحمل الذي لم يبلغ مئة وعشرين يوما، ويرى الغزالي أن ما قبل نفخ الروح يبعد الحكم بعدم تحريمه، أما بعد نفخ الروح فما بعده إلى الوضع فلا شك في التحريم([8]).
الوجه الثالث: الإجهاض في حالات الاغتصاب: الاغتصاب جريمة بشعة وسلوك يدل على طبيعة الإجرام والتعدي على القيم، ويقع فرديا، كما لو وقع على امرأة بعينها، وهو ما يحدث كثيرا في الوقت الحاضر بسبب الانحلال، وتأثير المخدرات، كما يقع جماعيا عندما تتعرض نساء طائفة أو بلد ما للاعتداء، كما حدث من الصرب في بلاد البوسنة والهرسك؛ مما يعد جريمة إنسانية كبرى.
ويُحدِث الاغتصاب مشكلات نفسية للمعتدى عليها، تؤدي في الغالب إلى حالات مرضية ومعاناة، خاصة عندما تكون هذه في حالة الزوجة، أو يؤدي اغتصابها إلى حملها من المغتصب، وفي هذه الحالة قد يكون الإسقاط وسيلتها في التخفيف من معاناتها، وقد تنازع المرأة المسلمة في هذه الحالة مشكلتان:
الأولى: حب التخلص من آثار جريمة بشعة.
والثانية: خوفها من الإثم في حالة الإسقاط العمد، خاصة عندما يكون الجنين قد بلغ مرحلة متقدمة، وهذا هو مدار سؤال السائل في هذه المسألة.
وهنا ينبغي التفريق بين أمرين:
الأمر الأول: ما قبل بلوغ الجنين مئة وعشرين يوما، وهذا يجوز إسقاطه على أساس أنه لم يتخلق بعد، وقد اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، أي مئة وعشرين يوما، وقد أشير آنفا إلى أن بعضا من فقهاء المذهب الحنفي أباح الإسقاط قبل نفخ الروح إذا انقطع لبن الأم بسبب الحمل، وهي ترضع طفلها الآخر، وليس لزوجها قدرة على استئجار مرضعة له، ويخاف هلاكه([9]).
الأمر الثاني: حالة الجنين بعد مرور مئة وعشرين يوما، وهذه الحالة قد لا تثير مشكلة في الوقت الحاضر بحكم التقدم الطبي المعاصر، حيث أصبح من السهل على المرأة أن تتأكد من حملها في بدايته، فالمعتدى عليها إذًا ملزمة بالتأكد من حالتها بعد الاغتصاب، فإذا تأكد لها حملها من المغتصب قبل نهاية الأربعة الأشهر الأولى -أي: مئة وعشرين يوما- جاز لها إسقاطه، وعذرها في ذلك حالة الغصب الذي تعرضت له، وحملت منه كارهة غير طائعة.
أما إذا لم تستطع التأكد من حالتها بعد الاغتصاب لعذر من الأعذار الشرعية، وبلغ الجنين أكثر من أربعة أشهر فإن قواعد الشريعة تتسع لجواز الإسقاط، وهي حالة من حالات الضرورة، مع دفع الكفارة، والضرورة لها أحكامها، وعذر المضطر واضح في كتاب الله في إباحة ما هو محظور عليه عندما يضطر إليه كما قال -تعالى-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [النحل:115]، وعندما عذب المشركون عمار بن ياسر ذكر بلسانه ما أرادوا من سب رسول الله، ومدح آلهتهم، فجاء إلى رسول الله -ﷺ-، وقال: ما تُرِكْتُ حتى سبيْتُك، وذكرْتُ آلهتهم بخير، فقال له رسول الله: «…كيف تجد قلبك»؟، قال: مطمئنا بالإيمان، فقال: «إن عادوا فعد»، وفي ذلك أنزل الله -تعالى- قوله الكريم: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]([10]).
والضرورات -كما يقول الإمام عز الدين بن عبد السلام- مناسبة لإباحة المحظورات جلبا لمصالحها([11])، وقد بنى الفقهاء على مسألة الضرورة عدة قواعد، منها قولهم: إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما. وقولهم: يزال الضرر الأشد بالضرر الأخف. والضرورات تبيح المحظورات([12]).
وتدرك الضرورة في حالة الاغتصاب بأن المعتدى عليها تصاب -في الغالب والأعم- بمرض نفسي يؤدي إلى مرض جسماني قد يودي بحياتها، فإسقاط الجنين في هذه الحالة أخف ضررا من موتها، وتدرك الضرورة -أيضا- من وجود طفل غير شرعي يحتاج إلى نفقة، وإلى من يتولى تربيته، ناهيك بأن المجتمع المحافظ -كما هو الحال في المجتمعات الإسلامية- لا يقبل في الغالب وجود أطفال غير شرعيين، الأمر الذي قد ينتج عنه أضرار لهم أنفسهم، وللمجتمع الذي يعيشون فيه.
ولكن ذلك لا يعني بأي حال أن تنتظر المعتدى عليها إلى أن يبلغ الجنين ستة أو سبعة أشهر ثم تحاول إسقاطه، فالضرورات تقدر بقدرها، وإذا كانت المعتدى عليها تتقبل حملها، ولا ضرر عليها منه نفسيا أو جسمانيا؛ وجب عليها عدم إسقاطه، والقيام على تربيته التربية الصالحة؛ ليجعل الله فيه خيرا كثيرا، فالمسألة إذًا ليست مجرد رغبة جامحة، أو استخفاف بمخلوق من مخلوقات الله، ولكنها مسألة ضرورة، إذا وُجِدتْ جاز ارتكاب المحظور؛ لدفع ما هو أكبر منه، وإلا فلا. والله أعلم.
([1]) أخرجه البخاري في بداية كتاب القدر برقم (6594)، فتح الباري، ج11 ص486، وأخرجه مسلم في كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، صحيح مسلم بشرح النووي، ج16 ص189-190.
([2]) شرح فتح القدير، ج8 ص324.
([4]) المغني والشرح الكبير، ج9 ص538-539.
([7]) حاشية ابن عابدين، ج3 ص176.
([8]) إحياء علوم الدين، ج2 ص49-50.
([9]) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم ج16 ص191.
([10]) انظر في هذا: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج12 ص327، قال الحاكم في المستدرك على الصحيحين، (٣٤٠٥): صحيح على شرط الشيخين.
([11]) قواعد الأحكام لابن عبد السلام، ج1 ص79-81.
([12]) انظر في هذا: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 7، ص121، بحث الإجهاض: آثاره وأحكامه.