وقبل الجواب عن هذا تنبغي الإشارة إلى أن هذا النوع من التعبير عُرِف في الأزمنة المتأخرة وسيلةً للتعبير عن رفض الظلم تجاه وضع أو حالة معينة، ولفت النظر إليها، والاهتمام بها من قبل العالم، وقد ساعد على تطور هذا النوع من التعبير تطور الاتصالات الدولية من خلال الوسائل العلمية، والإعلامية، واهتمام الإنسان على اختلاف مواقعه بقضايا الإنسان، رغم ما قد يكون بينه من الفوارق والمسافات.
ومن حيث الأصل فإن الإسلام قد حرم الظلم تحريما قاطعا في كل أنواعه، وصفاته، وصوره، ما ظهر منها وما بطن، وتفاصيل ذلك مبسوطة في كتب الفقه، أما التعبير عنه بالامتناع عن الطعام أو الشراب فله حكمان:
الحكم الأول: أن النفس ملك لله -عز وجل-، فهو المالك الحقيقي لها وجودا وعدما وتصرفا، وليس الإنسان إلا حارسا وأمينا عليها، وهذه الأمانة تقتضي منه وجوب حفظها، ومن ذلك: الأكل والشرب؛ لما فيه من قوامها، ولهذا أمره الله -تعالى- به في قوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، وقوله -تعالى-: {وَكُلُواْوَاشْرَبُواْ}، وقوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وفي الأمر بالأكل إلزام تقتضي مخالفته العقاب، وفي الأمر بالأكل من الطيبات توجيه إلى أن الحفاظ على النفس لا يكون إلا بالأكل من الطيبات، وما كان النهي عن أكل الخبائث والمحرمات إلا تنزيها للنفس، وتكريما لها؛ لأنها ملك لله -عز وجل-، والله طيب لا يقبل إلا طيبا، ومن تكريم الله للإنسان: أنه لم يأمره فقط بالأكل والشرب للحفاظ على نفسه، بل جعل له في ذلك أجرا، وفي ذلك قال رسول الله -ﷺ-: «المسلم يؤْجرُ في كل شيء حتى اللقمة يرفعها إلى فيه»([1]).
الحكم الثاني: تحريم إلقاء النفس إلى التهلكة وفي ذلك قال الله -تعالى-: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، وقال -تعالى-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وقد وردت في تفسير هذه الآية أقوال كثيرة، منها ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم، قال: كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله -ﷺ- بغير نفقة، فإما أن يُقْطِعَ بهم، وإما كانوا عيالا، فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش ومن المشي([2]).
ولأهمية الأكل والشرب للنفس بما يدفع الهلاك عنها لزم المضطرَّ الأكلُ من المحرمات كالميتة ولحم الخنزير ونحو ذلك، وقد أفاض الفقهاء في هذه المسألة:
ففي المذهب الحنفي: أن الأكل للغذاء، والشرب للعطش -ولو من حرام، أو ميتة، أو مال الغير، وإن ضمنه- فرض يثاب عليه، ولكن بمقدار ما يدفع الهلاك عن نفسه([3]).
وفي المذهب المالكي: أن من أحكام الشرع الواجبة تناول ما يسد الرمق -أي: يحفظ الحياة من شراب وطعام-، وأن مما حرم الشرع: منع الإنسان نفسه من الطعام والشراب ليموت([4])، وحدد الإمام مالك مقدار ما يؤكل من الميتة بالشبع، والتزود منها حتى يجد غيرها([5]).
وفي المذهب الشافعي: من خاف من عدم الأكل على نفسه موتا، أو مرضا مخوفا، أو زيادة، أو طول مدته أو انقطاعه عن رفقته، أو خوف ضعف عن مشي أو ركوب، ولم يجد حلالا يأكله، ووجد محرما كالميتة، أو لحم الخنزير، أو طعام الغير لزمه أكله؛ لأن تاركه ساعٍ في هلاك نفسه، ولا يشترط فيما يخاف تحقق وقوعه لو لم يأكل، بل يكفي في ذلك الظن([6]).
وفي المذهب الحنبلي: أن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل، قال الإمام أحمد: “إذا كان يخشى على نفسه سواءٌ كان من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي، وانقطع عن الرفقة فيهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك، ولا يتقيد ذلك بزمن محصور”. وقد سُئل عن المضطر يجد الميتة، ولم يأكل، فذكر قول مسروق: من اضطر فلم يأكل، ولم يشرب، فمات دخل النار.
وفي قول آخر: عدم إلزام المضطر الأكل من المحرمات، وإبقاء الأمر حالة جواز ورخصة؛ بدلالة ما روي عن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله -ﷺ- أن ملك الروم حبسه في بيت، وجعل معه خمرًا ممزوجا بماء ولحم خنزير مشويا ثلاثة أيام، فلم يأكل، ولم يشرب حتى مال رأسه من الجوع والعطش، وخشوا موته، فأخرجوه، فقال: قد كان الله أحله لي لأني مضطر، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام([7]).
والقول الأول هو الأصح بدلالة قول الله -تعالى-: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [البقرة:173]، وقوله -تعالى-: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، وامتناع الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي عن الأكل مع حالة الاضطرار حالة خاصة، أراد منها -رضي الله عنه- عدم شماتة ملك الروم بالمسلمين في شخصه.
وخلاصة المسألة: أن الأصل الشرعي وجوب الأكل والشرب لدرء الهلاك عن النفس، ولهذا يحرم على المكلف الامتناع عن ذلك بحجة التعبير عن وضعه أو مظلمته؛ لما في ذلك من المفاسد بتعريض نفسه للهلاك، والتصرف فيها بما يخالف أمر الله بالمحافظة عليها. والله أعلم.
([1]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج1 ص177، صحح إسناده أحمد شاكر في تخريج المسند، (٣/٦٦).
([2]) تفسير الدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي، ج1 ص499، وانظر: تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير، ج1 ص236.
([3]) انظر: حاشية رد المحتاج، ج6 ص338-339.
([4]) سراج السالك شرح أسهل المسالك لعثمان الجعلي المالكي، ج2 ص13.
([6]) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للخطيب، ج4 ص306، وانظر-أيضا-: بجيرمي على الخطيب، ج4 ص270-271.
([7]) انظر في هذا: المغني، ج11 ص74، وكشاف القناع، ج6 ص189-195.