والجواب: أن الله -سبحانه وتعالى- حين خلق الخلق هيأ لهم ما يمكنهم من الحياة إلى أجلهم المسمى، وأمرهم بفعل الأسباب لتحقيق هذا التمكين، فالأرض تحتاج إلى من يزرع فيها النبات لتوفير الطعام، وهذا النبات يحتاج إلى ريه بالماء، والماء يحتاج إلى من يبحث عنه، ويوصله إلى النبات، وهذه كلها أسباب طبيعية، ومدار هذه الأسباب هو “العمل”.
والأمر بالعمل واضح جلي في كتاب الله الكريم في آيات محكمات كثيرة، منها: قوله -تعالى-: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقوله -تعالى-: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وقوله -تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وقوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [الملك: 15]، وقوله -تعالى-: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، وقوله -تعالى-: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11].
وهذه الآيات واضحة في الأمر بالعمل لمواجهة ضرورات الحياة وحاجاتها وأسبابها، ولو قعد الإنسان عن العمل، واستكان لراحته، لتعطلت حياته، وأصبحت له مشقة ظاهرة، وهذا مخالف لأمر الله وحكمته البالغة من الخلق، وما أراده من تيسير الحياة لهم؛ لإعانتهم على عبادته وطاعته، والذين يعتقدون غير هذا يخالفون شريعة الله، ويتقولون عليه بغير علم.
والأمر بالعمل والحث عليه واضح -أيضًا- في سنة رسول الله -ﷺ-، فمن ذلك قوله: (ما أكل أحد طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده)([1])، وقوله: (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدًا، فيعطيَه أو يمنعَه)([2])، فهذان الحديثان قليل من كثير مما ورد في طلب الرزق، والحث عليه، وليس هذا الطلب مجرد عمل يؤجر عليه العامل فحسب، بل إنه فرض عين، يجب عليه القيام به ما دام يَقْدِرُ عليه، فإذا لم يقم بهذا الواجب فإنه قد فرط في حفظ نفسه، وهذا الحفظ من الضرورات الشرعية الخمس، كما أنه قد فرط في حفظ من يعول، وهذا الحفظ من الواجبات الشرعية عليه، ولا يعذر في هذا التفريط بكونه مشتغلًا بعمل آخر، ولو كان هذا العمل من أفعال الطاعات، وفي ذلك قال أبو قلابة لرجل ترك معاشه: “لأن أراك تطلب معاشك أحب إلى من أن أراك في زاوية المسجد”.
واستدلالًا بما سبق من نصوص القرآن والسنة فإن المسلم الذي يترك العمل يأثم على فعله لسببين:
أولهما: أنه عطل قواه التي منحه الله إياها، وأراد منه عمران الأرض، وهذا العمران لا يتأتى إلا بالعمل في الأرض التي أنشأه الله منها، كما قال -تعالى-: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
وثانيهما: أنه سيضطر إلى سؤال رزقه من الناس، وهذا السؤال منهي عنه شرعًا بقول رسول الله -ﷺ-: (ما فتح رجل باب مسألة يسأل الناس إلا فتح الله عليه باب فقر؛ لأن العفة خير)([3])، وعند الإمام أحمد بلفظ: (من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الجمر)([4]).
أما السؤال عن علاقة الزهد والتوكل بمسألة العمل فإن المقصود بالزهد في نظر الإسلام تحرير النفس من عبودية المال، ومنعها من الطمع والشره، وليس المقصود منه بأي حال الامتناع عن العمل لطلب المال؛ لأن الله جعل المال زينة الحياة الدنيا؛ لقوله -تعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، وليس المقصود -أيضًا- من الزهد الامتناع عن التمتع بالطيبات؛ لأن الله أمر بذلك في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} [البقرة: 172].
أما التوكل فإن الأحكام القرآنية التي ورد فيها الأمر بالتوكل واضحة في أن المقصود به أمران:
أولهما: الاستعانة بالله، وهذه تعني وجود الإرادة أولًا لعمل شيء مشروع، ثم إِتْباعه بطلب العون من الله على تحقيقه، وهذا هو ما يحقق صبغ السلوك المادي بالسلوك الديني، ويظهر هذا جليًّا في قوله -تعالى-: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} [آل عمران: 159].
والاستعانة بالله لا تعني أبدًا ترك السبب المشروع، وقد سُئِل سهل بن عبد الله عن التوكل، فقال: “من قال: إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله -ﷺ-؛ لأن الله -عز وجل-يقول: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلًا طَيِّبًا} [الانفال: 69]، فالغنيمة اكتساب، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (إن الله يحب المؤمن المحترف)([5])، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “إن المتوكل رجل ألقى الحب في الأرض، وتوكل على الله”.
الأمر الثاني: النفي المطلق في الاعتماد على غير الله؛ لأن الله هو المسبب الكليُّ، والمُسيِّرُ المطلق لكل شيء، وهذا النفي يرسخ عقيدة التوحيد في نفوس الموحدين؛ ليؤمنوا بأن السبب الذي يفعله الإنسان في تصرفاته موصول بإرادة مسبب قادر هو الله -Y-.
ونخلص من هذا أن مفهوم الزهد والتوكل لا يعنيان بأي حال ترك العمل، وانتظار الرزق بدون فعل السبب، وبذل الجهد، بل هما دافعان للمسلم إلى بذل ما يستطيعه من جهد؛ لتحقيق حكمة استخلافه في الأرض بما يضمن حفظ نفسه، وحفظ من يعول في إطار الشرع وقواعده.
والله أعلم.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، برقم (2072)، فتح الباري، ج4 ص355.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، برقم (2074)، فتح الباري، ج4 ص355.
([3]) كنز العمال، ج6 ص506، قال ابن جرير الطبري في مسند عمر، (١/١٨): إسناده صحيح.
([4]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج4 ص 165، المكتب الإسلامي، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند لشعيب، (١٧٥٠٨): صحيح لغيره.
([5]) أخرجه الهيثمي في باب الكسب والتجارة، ومحبتها، والحث على طلب الرزق، وقال: “فيه عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف”، مجمع الزوائد، ج4 ص62، ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب، (١٠٤٣).