والسؤال الثاني يذكر فيه صاحبه أن موظفا كان يعمل في إحدى المؤسسات التجارية، ثم استقال منها بعد خلاف نشأ بينه وبين صاحبها، وقد انتقل هذا الموظف إلى مؤسسة أخرى منافسة للأولى، وصار يفشي أسرار عمله السابق في هذه المؤسسة، ويسأل السائل عن حكم هذا الفعل.
وقبل الجواب عن هذا نرى أن هذين السؤالين ينحصران في سؤال عام، هو: هل يجوز شرعا لأي مؤتَمَنٍ على سر من الأسرار العامة أو الخاصة إفشاؤه لغيره، سواء بحسن نية أو بسوء نية؟.
والسر هو ما يكتم، وهو خلاف الإعلان، وأسررت الحديث إسرارا: أخفيته([1])، ومن أسر إلى أحد شيئا فقد ائتمنه عليه، وأراد منه إخفاءه، ومن فعل غير ذلك فقد خان الأمانة، والخون النقص، ومن خان الرجل في شيء فقد أدخل عليه النقصان فيه([2])، وقد نهى الله عن خيانة الأمانة بقوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [الأنفال:27]، وقد اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية؛ فقيل: نزلت في أبي لبابة حين بعثه رسول الله -ﷺ- إلى بني قريظة لما حاصرهم، فقالوا: يا أبا لبابة! ما ترى لنا؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا؟، فأشار أبو لبابة إلى حلقه محذرا لهم من ذلك، وواصفا قبولهم بالذبح. وقيل: نزلت في نفر يسمعون الشيء من رسول الله، فيفشونه إلى المشركين([3]).
وأيا كان سبب نزول هذه الآية فإن حكمها عام في النهي عن خيانة الأمانة؛ لأن العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وكما نهى الله عن خيانة الأمانة أثنى على من يرعونها ويحافظون عليها، وسماهم المؤمنين في قوله -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} [المؤمنون:1]، إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} [المؤمنون:8]، والمراعاة هنا الحفظ، وعكسه الخيانة، وقد جاءت السنة مغلظة لخيانة الأمانة، فروى أبو هريرة عن النبي -ﷺ- قوله: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»([4])، وروى عبد الله بن عمرو أن النبي -ﷺ- قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»([5]).
والمؤتمن على السر له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون السر من طبيعة عمله كالطبيب الذي يعرف أمراض مرضاه وأسرارها، ومثله الصيدلاني الذي يعرف أسرار المرضى من خلال بيعه الأدوية لهم، ومثلهما موظف المصرف الذي يعرف ودائع الناس وأموالهم، وعلاقاتهم التجارية، ومثلهم الموظف العام أو الخاص الذي يطلع على أسرار الجهة التي يعمل فيها، سواء كان اطلاعه عليها مباشرة، كما لو كانت هذه الأسرار في عهدته ومسؤوليته، أو كان يعرف عنها بحكم وجوده وانتسابه إلى الجهة صاحبة هذه الأسرار.
وقد أشار الله إلى أن الأمانة من صفات الأجير، وهو من يوكل إليه القيام بعمل من الأعمال، وفي ذلك قال -تعالى- عن مارد الجن في مخاطبته لنبي الله سليمان، واستعداده لحمل عرش ملكة سبأ: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِين} [النمل:39]، وقال في قصة نبيه موسى مع النبي شعيب: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين} [القصص: 26]، فدل ذلك على أن الأمانة من صفات الأجير، وأنها مطلب لازم فيه.
الحالة الثانية: أن يُسِرَّ له أحد بشيء من أموره كمرضه أو ديونه أو علاقاته التجارية، أو أن يطلعه على أسرار عائلته، ومن ذلك: تمكينه من النظر إلى ابنته؛ لرغبته في الزواج بها كما في هذه المسألة، أو نحو ذلك.
فهذه الأسرار أمانة، قال فيها رسول الله -ﷺ-: «المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق»([6])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله، فلا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره»([7])، وقال: «إذا حدث الرجل بالحديث، ثم التفت، فهي أمانة»([8]).
الحالة الثالثة: أن يطلع على سر من أسرار غيره خلاف الحالتين السابقتين، وذلك مثل أسرار جيرانه أو زملائه أو معارفه، فرغم أنه في الصفتين السابقتين يعتبر مكلفا حكما بالحفاظ على السر، فإنه في هذه الحالة يعتبر مكلفا خُلُقا وديانة بالحفاظ عليه؛ لأنه لو كان يتعلق به هو نفسه لما أفشاه إلى غيره، فكان من الواجب عليه إذًا ألا يفشيه إذا كان متعلقا بأخيه؛ لأن أخوته معه توجب عليه أن يُحِب له ما يحبه لنفسه، وأن يكره له ما يكره لنفسه، ناهيك عما له في الستر وحفظ السر من الأجر، وفي ذلك قال رسول الله -ﷺ-: «من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة»([9])، وفي قول آخر: «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة»([10])، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «تعوذوا بالله من جار السوء الذي إن رأى خيرا كتمه، وإن رأى شرا أذاعه»([11])، وقال -ﷺ-: «من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة»([12]).
وجماع ما سبق: أن السر أمانة، وإفشاءه يعد خيانة نهى الله عنها في كتابه العزيز كما مر ذكره، وقد جعلها رسوله الأمين من صفات المنافقين، وينبني على هذا أن إفشاء موظف المؤسسة لأسرارها يعد خيانة لعمله ولو كان قد استقال منه، وأن حديث الخاطب عن مخطوبته السابقة يعد خيانة للأمانة، وسلوكًا يتنافى مع الخلق القويم، وهذا السلوك في السؤالين المشار إليهما أمر محرم؛ لما فيه من الأذى والضرر. والله أعلم.
([1]) المصباح المنير، ج1 ص273.
([3]) انظر: جامع البيان للطبري، ج9 ص221-222، وانظر: تفسير الفخر الرازي، ج15، ص156-157.
([4]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم (33)، فتح الباري، ج1 ص111، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم (107)، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج1 ص277.
([5]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم (34)، فتح الباري، ج1 ص111، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم (106)، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج1 ص274-276.
([6]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في نقل الحديث، برقم (4869)، سنن أبي داود، ج4 ص268، حسنه السيوطي في الجامع الصغير، (٩١٥٥).
([7]) أخرجه البرهان فوري في كنز العمال، ج9 ص144، برقم (25433)، ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، (٣٨٥٤).
([8]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في نقل الحديث، برقم (4868)، سنن أبي داود، ج4 ص267، حسنه الألباني في صحيح أبي داود، (٤٨٦٨).
([9]) أخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في الستر على المسلم، برقم (1425)، سنن الترمذي، ج4 ص26، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٤٢٥).
([10]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في الستر على المسلم، برقم (1426)، سنن أبي داود، ج4 ص273، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٨٦٦٤).
([12]) أخرجه البخاري (٢٤٤٢)، ومسلم (٢٥٨٠)، أخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في الستر على المسلم، برقم (1426)، سنن الترمذي، ج4 ص26.