والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: عظم شهادة الزور.
والثاني: ما يفعله المقضي عليه بشهادة زور.
والثالث: ما يترتب على هذه الشهادة من أحكام.
الوجه الأول: عظم شهادة الزور:
لقد نهى الله عن هذه الشهادة، وعظم أمرها حين قرنها بالرجس من الأوثان في قوله -تعالى-: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور} [الحج:30]، كما عظم أمرها حين جعل من صفات عباده عدم شهادتهم الزور في قوله -تعالى-: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان:63]. إلى قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72].
كما عظم رسول الله -ﷺ- أمر شهادة الزور فيما رواه عبد الله بن مسعود أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر»؟، قلنا: بلى يا رسول الله!، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين»، وكان متكئا، فجلس وقال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور»، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت([1]).
ومن وجه آخر روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: «عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثلاث مرات»([2]).
الوجه الثاني: ما يفعله المقضي عليه بشهادة زور:
ليس أمام المقضي عليه من وسيلة لتقرير أن هذه الشهادة شهادة زور إلا بإحدى الحالات التالية:
الحالة الأولى: أن يُقِر الشاهد أن شهادته شهادة زور.
الحالة الثانية: أن تقوم البينة على أنه شاهد زور.
الحالة الثالثة: أن يُشْهد بما يقطع بكذبه.
وينبغي التفريق بين الخطأ والكذب في الشهادة، فإذا اختلط الأمر على الشاهد لغفلة أو نسيان، أو أي وجه آخر من وجوه الخطأ غير المقصود فلا يُعد شاهد زور([3])، أما إذا تعمد الكذب وقول الباطل فإنه شاهد زور بلا خلاف.
الوجه الثالث: الأحكام والآثار التي تترتب على شهادة الزور:
إذا ثبت أن شهادة الشهود كانت زورا ترتبت عليها الآثار التالية:
الأثر الأول: التوقف عن إصدار الحكم، فإذا كانت القضية مهيأة للحكم، وقبْل صدوره أقر الشهود أنهم شهدوا زورا، أو قامت البينة على أنهم كذلك، فيجب على القاضي التوقف عن إصدار الحكم إذا كان مبنيا على شهادتهم؛ والعلة في هذا واضحة في أن الحكم المراد إصداره قد بُنِي على خطأ، وما يبنى على الخطأ فهو خطأ.
الأثر الثاني: عدم نقض الحكم بعد صدوره: إذا رجع الشهود عن شهادتهم رجوعا معتبرا عند القاضي فعند الإمام أبي حنيفة: لا يُنْقضُ الحكم، سواء قبض المقضي له المال الذي قُضِي له به، أو لم يقبضه([4]).
وفي مذهب الإمام أحمد: إذا رجع الشهود بعد الحكم بشهادتهم لم ينقض الحكم؛ لأنه تم بشرطه، فلم يجز نقضه؛ لما يحتمل أن الشهود كذبوا في رجوعهم عن الشهادة، لا في الشهادة ذاته، وللمشهود له استيفاء الحق المالي؛ لأن الحق ثبت له، فكان له استيفاؤه إلا في الحدود والقصاص إذا رجع الشهود قبل الاستيفاء لم يجز الاستيفاء؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، أما إن رجعوا بعد الاستيفاء فعليهم دية ما تلف([5]).
الأثر الثالث: ضمان شاهد الزور:
وفي مذهب الإمام مالك: يضمن الشاهد ما أتلف بشهادته إذا أقر أنه تعمد الزور، فإن كانت في مال لزمه غرمه، وإن كانت في دم غرم الدية في الخطأ والعمد.
وعند الإمام الشافعي وأشهب من علماء المالكية: يُقْتص منه في العمد، فإن كان رجوعه قبل الحكم أو بعده لزمه الحد([6]).
وعند الإمام أبي حنيفة: عليه الضمان، ولا قصاص([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: إذا شهد رجلان على رجل بما يوجب قتله، فقُتِل بشهادتهما، ثم رجعا، واعترفا بتعمد القتل ظلما وكذبهما في شهادتهما فعليهما القصاص؛ بدليل أن رجلين شهدا عند الإمام عليٍّ -رضي الله عنه- على رجل أنه سرق، فقطعه، ثم رجعا عن شهادتهما، فقال الإمام عليٌّ: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما. وغرمهما دية يده([8]).
الأثر الرابع: عقوبة شاهد الزور:
شهادة الزور جناية، ومن الكبائر، وعقوبتها تعزيرية، وفي المذهب الحنفي خلاف في كيفية التعزير:
فالإمام أبو حنيفة يرى التشهير به، بحيث ينادَى عليه، ويحذر الناس منه.
ويري صاحبا الإمام أبي حنيفة: (أبو يوسف ومحمد) ضربه، فإن لم يتب، وأصر على ذلك فالإجماع في المذهب أنه يعزر بالضرب([9]).
وفي المذهب المالكي: يلزم تأديبه([10]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يترك للحاكم أمر تعزيره بالضرب أو الحبس أو الزجر أو التشهير بأمره([11]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يجب تأديب شاهد الزور، وتفويض أمر العقوبة لرأي الحاكم، إن رأى ذلك بالجلد جلده، وإن رآه بحبس أو إهانة أو توبيخ فعل([12]).
وخلاصة المسألة: أن شهادة الزور من الكبائر التي حرمها الله بدليل الكتاب والسنة، ويلزم لإثبات شهادة الزور إما إقرار الشاهد نفسه، أو قيام البينة على ذلك، وينبغي التفريق بين الخطأ والكذب في الشهادة، فإذا اختلط الأمر على الشاهد لغفلة أو نسيان فلا يُعد شاهد زور.
ويترتب على شهادة الزور التوقف عن إصدار الحكم إذا كان مبنيا على هذه الشهادة، وعدم نقض الحكم بعد صدوره؛ لما يحتمل أن الشاهد قد كذب في رجوعه عن الشهادة، لا في الشهادة ذاتها، وللمشهود له استيفاء ما حُكِم به إلا في حالة الحدود والقصاص، فإذا رجع الشاهد قبل الاستيفاء لم يجز الاستيفاء؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
ويضمن شاهد الزور مما أتلف بشهادته إذا أقر أنه تعمد الزور، فإن كانت في مال لزمه، ويقتص منه في حال العمد.
ويعاقب شاهد الزور تعزيرا وفقا لما يراه الحاكم. والله أعلم.
([1]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، برقم (2653)، فتح الباري، ج5 ص309، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أكبر الكبائر، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص81-82.
([2]) أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية من سننه، باب في شهادة الزور، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب شهادة الزور، والإمام أحمد في المسند، ج4 ص178، والترمذي في كتاب الشهادات، باب ما جاء في شهادة الزور برقم (2300)، سنن الترمذي، ج4 ص470، ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي، (٢٣٠٠).
([3]) المجموع شرح المهذب، ج20 ص232، وفي المذهب الحنفي: أن شهادة الزور لا تُعْلمُ إلا بالإقرار، وليس بالبينة. انظر: العقود الدرية لابن عابدين، ج1 ص321.
([4]) العقود الدرية لابن عابدين، ج1 ص321.
([5]) العدة شرح العمدة لبهاء الدين المقدسي، ص656-657.
([6]) القوانين الفقهية لابن جزي، ص206.
([7]) انظر: بدائع الصنائع، ج6 ص289، وفتح القدير، ج7 ص479، والقوانين الفقهية، ص206.
([8]) المغني والشرح الكبير، ج9 ص322.
([9]) انظر: بدائع الصنائع للكاساني، ج6 ص289، وفتح القدير، ج7 ص475-476.
([10]) شرح منح الجليل لعليش، ج8 ص507.