والأصل أن الله -تعالى- حرم على عباده على التأبيد أكل الحرام في أي صورة من صوره؛ لما في ذلك من الظلم، واختلال العلائق بين الناس، وسطوة قويهم على ضعيفهم، وكبيرهم على صغيرهم، ومع هذا العموم خص الله طائفة منهم بالتأكيد على حرمة أموالهم؛ لضعفهم وعجزهم وقصورهم عن الدفاع عن أموالهم، فقال-تعالى-في مال اليتامى بعد بلوغهم: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]، وفي ذلك قال سعيد بن جبير: “لا تتبدلوا أموالكم الحلال، وتأكلوا أموالهم الحرام”([1])، ثم أكد-تعالى-ذلك بذكر الجزاء لمن يفعل ذلك في قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
ومن الخصوص إلى العموم نهى الله -تعالى- عن تعاطي الحرام عن طريق أكل أموال الناس بالباطل، فقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29]، ويشمل الباطل كل مال يتأتى عن التعاطي المحرم، كالربا والقمار والغصب والغش وأنواع الحيل، ثم استثنى الله ما كان التعامل فيه بالاتجار القائم على التراضي المتبادل الذي لا تشوبه شائبة، وفي هذا قال رسول الله -ﷺ-: (إنما البيع عن تراض)([2])، وقال: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا)([3]).
وفي نهيه-عليه الصلاة والسلام-عن الحرام، وتعظيم أمره أحاديث كثيرة، منها قوله: (أَيُّما لحمٍ نبت من حرام فالنار أولى به)([4])، وقوله في الرجل يمد يديه إلى السماء: (يا رب! يا رب!، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)؟([5])، وقوله: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)([6]).
ولما كان المال قد لا يكون كله حلالًا، فتنتفي عنه الشبهة، وقد لا يكون كله حرامًا فيحكم بتحريمه من جميع الوجوه، فقد تعرض الفقهاء لمسألة اختلاط الحلال والحرام في المال، فرأوا أن المعيار هو ما “يغلب” في هذا أو ذاك.
فقد روي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: “كل شيء أفسده الحرام، والغالب عليه الحلال، فلا بأس ببيعه…، وما كان الغالب عليه الحرام لم يجز بيعه ولا هبته”. ومثل محمد صاحب أبي حنيفة لذلك بالزيت إذا وقع فيه ودك الميتة أنه إن كان الزيت هو الغالب فيجوز بيعه، وإن كان الودك هو الغالب فلا يجوز بيعه([7]).
وقد تجاوز الإمام عز الدين بن عبد السلام في مسألة الأرض، فرأى أنه لو عمها الحرام، بحيث لا يوجد فيها حلال جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة، ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات؛ لأنه “لو وقف عليها لأدى إلى ضعف العباد، واستيلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام، ولانقطع الناس عن الحرف والصنائع والأسباب التي تقوم بمصالح الأنام”([8]).
ويظهر أنه -رحمه الله – كان متأثرًا في رأيه هذا بالفترة التي كانت فيها البلاد الإسلامية في الشرق تعاني من الغزوات الأجنبية، وقد خشى أن يكون التوقف عن استعمال الأرض بحكم الشبهة في حلها وحرمتها سببًا في استيلاء غير المسلمين عليها، ويؤيد هذا أنه -رحمه الله – أجاب من اعترف بأن أكثر ماله حرام، وهل تجوز معاملته، فقال: “إن غلب الحرام عليه بحيث يقدر الخلاص منه لم تجز معاملته”([9]).
ويرى الإمام ابن تيمية أن الحرام نوعان:
الأول: حرام لوصفه، كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، فهذا إذا اختلط بالماء والمائع وغيره من الأطعمة، وغيَّرَ طعمه أو لونه أو ريحه حرمه.
والثاني: الحرام لكسبه، كالمأخوذ غصبًا، أو بعقد فاسد، فهذا إذا اختلط بالحلال لم يحرمه، فلو غصب الرجل دراهم أو غيرها، وخلط ذلك بماله لم يحرم الجميع، لا على هذا ولا على هذا، بل إن كانا متماثلين أمكن أن يقسماه، ويأخذ هذا قدر حقه، وهذا قدر حقه([10]).
ويذهب رأى آخر في الفقه إلى تغلب الحرام بمجرد خلطه مع المال الحلال، بصرف النظر عن النسبة فيهما، وقد استدل أصحاب هذا الرأي بحديث (ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال)([11])، وقد ضعف البيهقي هذا الحديث.
ومن فروع هذا الرأي: أنه إذا تعارض دليلان: أحدهما يقتضي التحريم، والآخر يقتضي الإباحة، قُدِّمَ التحريم.
ومن فروعه -أيضًا- : أنه لو اختلط ودك الميتة بالزيت ونحوه لم يؤكل إلا عند الضرورة، وهذا على خلاف ما رآه الإمام أبو حنيفة ومحمد من الأخذ بمعيار الغالب لأحد الخليطين.
ومن فروع هذا الرأي -أيضًا- : أنه لو كان بعض الشجرة في الحل، وبعضها في الحرم، حرم قطعها([12]).
وخلاصة ما سبق: أن المعيار في مسألة اختلاط المال الحرام بالمال الحلال هو ما غلب فيه هذا أو ذاك، ولكن غلبة المال الحلال على المال الحرام لا تعفي صاحب المال من مسؤوليته بالنسبة لحقوق الله وحقوق الآدميين، فحقوق الله تتطلب التوبة بشروطها، وحقوق الآدميين تستوجب ردها، ولن يعفيه منها إلا ردها أو اعفائهم له منها.
وعلى من جمع مالًا حرامًا، وخلطه بمال حلال أن يتوب إلى الله، ويطهر الحلال من الحرام بما يتيقنه، أو يغلب على ظنه؛ ليستبرئ بذلك لدينه، عسى الله أن يجعله في عداد الذين قال فيهم: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [التوبة: 102].
والله أعلم.
([1]) انظر: تفسير ابن كثير، ج1 ص386.
([2]) رواه ابن ماجة في سننه، في كتاب التجارات، باب بيع الخيار، برقم (2185)، وقال في الزوائد: “إسناده صحيح، ورجاله موثقون”. ج2 ص: 736-737، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٧٩٢).
([3]) أخرجه البخاري (٢١١٢)، ومسلم (١٥٣١)، رواه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا” برقم (2181)، ج2 ص735-736.
([4]) رواه البرهان فوري في كنز العمال، برقم (9268) ج4 ص15، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم، (١/٢٦٠): إسناده فيه نظر.
([5]) أخرجه مسلم في صحيحه، باب “كل نوع من المعروف صدقة”، شرح النووي على مسلم ج7 ص: 99 – 100.
([6]) أخرجه البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩)، رواه ابن ماجة في كتاب الفتن، باب الوقوف عند الشبهات، برقم (398)، ج2 ص1318- 1319.
([7]) بدائع الصنائع للكاساني، ج5 ص144، وانظر في هذا: قواعد الأحكام لابن عبد السلام ج1 ص72-73.
([8]) قواعد الأحكام، ج1 ص159-160.
([9]) قواعد الأحكام، ج1 ص72-73.
([10]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع: عبد الرحمن بن قاسم، ج29 ص320، وانظر له-أيضًا-: القواعد الفقهية والنورانية، ص36.
([11]) السنن الكبرى للبيهقي، ج7 ص169، قال الألباني في معرض حكمه على الحديث: “لا أصل له. قاله الحافظ العراقي في تخريج المنهاج، ونقله المناوي في فيض القدير، وأقره”. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، لمحمد ناصر الدين الألباني، ص384، برقم (387).
([12]) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص109-111، والأشباه والنظائر للسيوطي، ص74-75.