ومفاد هذه المسألة: أن رجلاً يقيم بعض الوقت خارج وطنه، وله شراكة في ملك يقع فيه، وقد علم من أحد أقاربه أن شريكه باع حصته، فقام على الفور بإخبار المشتري هاتفيًّا بشفعته، ولم يكتف بذلك، بل أرسل رسالة عن طريق الهاتف المكتوب (الفاكس)، ويسأل عما إذا كان يلزمه غير ذلك لإثبات شفعته، كما يسأل عن المدة اللازمة لإثباتها؟.

كيفية إثبات الشفعة وما هي المدة اللازمة لإثباتها

والجواب عن هذا من وجهين:

الوجه الأول: مسألة إخباره المشتري بالهاتف المسموع ثم المكتوب، والأصل في الشفعة أن يبدي الشفيع ما يدل دلالة واضحة على طلبه الشفعة، ويتم ذلك بطريقة من عدة طرق:

ومنها على سبيل المثال: إبداء الشفيع رغبته في الشفعة إذا كان حاضرًا في المجلس الذي تم فيه عقد البيع.

ومنها: أن يُشهِدَ شاهدين على رغبته فيها.

ومنها: أن يرسل الشفيع رسولًا إلى المشتري؛ لإخباره بشفعته، وينبغي في هذه الحالة أن يعلم بذلك شخص آخر يكون بمثابة الشاهد مع المخبر.

ومنها: أن يرسل الشفيع كتابًا إلى المشتري يخبره فيه بشفعته، وفي هذه الحالة ينبغي أن يكون الكتاب موثقًا بطرق التوثيق المعروفة، كاستنساخ صورة منه، أو تسجيله في البريد، ونحو ذلك مما يدل على إثبات حقه في الشفعة.

ويتبين مما سبق أن المقصود إظهار رغبة الشفيع في الشفعة، وإذا كان تحقيق هذه الرغبة يتم بإحدى الطرق المشار إليها آنفًا فإن إخبار المشتري بشفعة الشفيع يتحقق بواسطة الهاتف المسموع؛ ذلك أنه مما لا ريب فيه أن الهاتف أداة نقل للصوت بطريقة علمية مؤكدة، لا يماري أحد في تحقيقها لغرض (الإبلاغ) بما يراد إبلاغه، أو (الإخبار) عنه، فكان لذلك علم المشتري حاصلًا بها حصولَه بسماع صوت الشفيع وجهًا لوجه.

ولما كانت الشفعة تؤدي إلى التملك الجبري المفروض، أي: دون رغبة المشتري ورضاه، فإن مسألة العلم بالشفعة قد تكون محل جدل، أو بالأحرى محل إنكار منه، فوجب مع ذلك التوثيق في حق الشفيع، ويتم توثيق الإبلاغ أو الإخبار بواسطة الهاتف، إما عن طريق شاهدين سمعا ما تلفظ به الشفيع، وإما بأي طريق آخر يُفْهَمُ منه حصول العلم عن طريق هذه الأداة.

والهاتف المكتوب (الفاكس) طريقة أخرى لنقل الإبلاغ أو الإخبار بطريقة مكتوبة، ولما كان هذا النقل حقيقة علمية مؤكدة وجب الاعتداد به مطلقًا في إثبات حق الشفيع في الشفعة، قياسًا على ما قرره الفقهاء من أن العلم بالشفعة يحصل برسالة مكتوبة أو بواسطة رسول([1])، والرسالة عن طريق الهاتف المكتوب أو الفاكس لا تختلف عن الرسالة المعروفة، بل هي أبلغ في حق المشتري؛ لما تتميز به من سرعة إخباره، وأبلغ في حق الشفيع؛ لضمانها سرعة شفعته كما سنرى.

الوجه الثاني: المدة اللازمة لإثبات طلب الشفعة: يترتب طلب الشفعة فور العلم بالبيع؛ عملًا بقول رسول الله -ﷺ-: (الشفعة لمن واثبها)([2])، وقوله: (إنما الشفعة كنشط عقال، إن قيدت ثبتت، وإن تركت فاللوم على من تركها)([3])، والشفعة تكون لحاضر وغائب، فأما الحاضر فتجب الشفعة له على الفور.

وللفقهاء في هذا عدة آراء:

ففي المذهب الحنفي: إذا علم بالبيع، وسكت عن الطلب مع القدرة عليه، بطل حق الشفعة، ويري الإمام أبو حنيفة أنه إذا أشهد لم تبطل ولو تراخى([4]).

وفي المذهب الشافعي: يجب على الشفيع المبادرة عقب علمه من غير فاصل على العادة، ويُرجع إلى العرف في تحديد التواني والتقصير في الطلب([5]).

إنما الشفعة كنشط عقال، إن قيدت ثبتت ليست الشفعة على الفور، فإذا أنكر الشفيع بأنه علم عن البيع صُدِّقَ قوله، ولا تسقط شفعته؛ لأن الأصل عدم العلم، وقيل: يحلف على عدم علمه، وعن الإمام مالك: أنها تسقط بسنة، وقيل عنه: إنها تسقط بمضي مدة يُعلم أنه تاركٌ لها([6]).

وفي المذهب الحنبلي: الشفعة على الفور إن طالب بها ساعة علمه بالبيع، وإلا بطلت، ويحكى عن الإمام أحمد رواية ثانية أنها على التراخي، ولا يسقط حقه فيها ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا من عفو، أو مطالبة بقسمة، ونحو ذلك([7]).

إن الراجح لدى أكثر الفقهاء أن الشفعة على الفور ساعة علم الشفيع بالبيع؛ عملًا بقول رسول الله -ﷺ-: (الشفعة لمن واثبها)، والمواثبة تعني السرعة في الطلب؛ لأن في الإسراع فيها دفع ضرر عن المشتري وعن الشفيع معًا، فإذا تراخى الشفيع فيها فقد يدفع ذلك المشتري إلى التصرف فيها بغراس إن كان محلها مما يغرس، أو بناء إن كان محلها مما يُبْنى، وهكذا، وفي هذا ضرر له، كما أن فيه ضررًا للشفيع؛ لأنه قد لا يريد غرس الأرض، ولا البناء فيها، فالإسراع فيها إذًا فيه مصلحة للطرفين.

وأما الشفعة للغائب فيكاد الفقهاء يجمعون على أن الغائب على شفعته، ما لم يعلم ببيع شريكه، فإذا علم وهو غائب، فمنهم من يرى عدم سقوط حقه فيها، وهو ما ذهب إليه الإمام مالك، ومنهم من يرى سقوط حقه فيها؛ لأن سكوته مع علمه دلالة على رضاه بإسقاطها([8])، وظاهر كلام الإمام أحمد أنه متى علم الغائب بالبيع، وقدر على الإشهاد وعلى المطالبة، فلم يفعل، سقطت شفعته، سواءٌ قدر على التوكيل، أم عجز عنه([9]).

والفقهاء الذين قالوا بالتراخي وعدم سقوط حق الغائب كان لقولهم ما يبرره في ذلك الوقت؛ نظرًا لمصاعب الاتصال بالغائب؛ لانقطاع أخباره عن محل إقامته، أو مكان البيع، أما في الوقت الحاضر فقد تغيرت الأحوال، وأصبح من السهل -بل من المؤكد- عِلْمُ الإنسان يوميًّا بأخبار أهله، ومكانه، وما يجري من تصرف من شريكه أو شركائه، فأصبح من اللازم عليه المبادرة بإثبات حقه في الشفعة إذا كان يرغب فيها؛ دفعًا لما قد يلحق المشتري من ضرر، وما يلحقه هو -أيضًا- من ضرر.

وخلاصة الجواب عن هذا السؤال: أن علم المشتري بشفعة الشفيع يعتبر حاصلًا إذا تم عن طريق الهاتف المسموع، ومن واجب الشفيع توثيق محادثته بشهادة شاهدين، أو بغير ذلك من أوجه التوثيق المعروفة؛ درءًا لاحتمال إنكار المشتري.

أما رسالته بالفاكس فتعتبر أداة إخبار مستقلة لإثبات حقه في الشفعة، ويكفيه واحدة من هاتين الطريقتين لإثبات هذا الحق، فإذا أراد استخدامهما معًاً فالأمر يعود إليه.

أما المدة اللازمة لطلب الشفعة فينبغي أن تكون على الفور ساعة علمه بالبيع، فإن حصل توانٍ أو تقصيرٌ منه بعد علمه سقط حقه في الشفعة، ويُرْجعُ في تقرير التقصير إلى العادة أخذاً بظروف الزمان والمكان، وأحوال الاتصالات في العصر الحاضر.

والله أعلم

 

([1]) انظر: حاشية الطحطاوي على الدر المختار، ج4 ص122، وانظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، ج2 ص709.

([2]) المصنف لعبد الرزاق، ج8 ص83، قال ابن حجر العسقلاني في الدراية تخريج أحاديث الهداية، (٢/٢٠٣): لم أجده وإنما ذكره عبد الرزاق من قول شريح.

([3]) إرواء الغليل، ج5 ص379.

([4]) بدائع الصنائع للكاساني، ج5 ص17-19.

([5]) نهاية المحتاج للرملي، ج5 ص216.

([6]) مواهب الجليل للحطاب، ج5 ص322، وانظر: بداية المجتهد لابن رشد، ج2 ص263.

([7]) المغني والشرح الكبير، ج5 ص477-478.

([8]) المدونة الكبرى، ج4 ص216، وبداية المجتهد، ج2 ص262.

([9]) المغني والشرح الكبير ج5 ص486.