الأصل أنه يجب على المكلف العلم بأمور دينه، سواء منها ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات، وهذا العلم يقتضي منه تعلم ما يستطيع به معرفة الأولويات والمسلَّمات في مسائل التكليف امتثالًا لقول الله -تعالى-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [الأنبياء: 7]، وقول رسوله محمد -ﷺ-: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»([1])، فمن يصلي لا بد أن يعرف حقيقة الصلاة في واجباتها وأركانها ومبطلاتها، وما يستلزمه أداؤها، ومن يصوم يجب عليه معرفة الصوم بأركانه وشروطه ومبطلاته، ومن يأكل ينبغي أن يعرف نوع الطعام الذي يأكله؛ وهكذا في كل أمر
من أمور العبادات، ومن يتعامل في أمور الدنيا من مضاربة وغيرها يجب عليه أن يعرف ما توجبه مسائل المعاملات، وإلا وقع فيما هو محظور عليه من غش وربا ونحوهما.
وفي هذا يقول القرافي: “إن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه”([2]).
وحقيقة الجهل: “عدم العلم عما من شأنه العلم”([3])، والجهل ليس صفة لازمة للإنسان، فهو-كما يقول الأحناف-من العوارض المكتسبة، ونفيه عنه مبني في الغالب على إرادته، فمن أراد أن يتعلم فليس هناك ما يمنعه، ومن أراد أن يعرف ما يريد معرفته أمكنه ذلك، وعلى هذا كان العذر في الجهل محدودًا، ولو لم يكن كذلك لأصبح العلم بلا معنى، وليس كذلك، وفي هذا يقول الإمام الشافعي: “لو عذر الجاهل لأجل جهله لكان الجهل خيرًا من العلم؛ إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف، ويريح قلبه من ضروب التعنيف، فلا حجة للعبد في جهله بالحكم بعد التبليغ والتمكين”([4])، {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
وما يقصده الإمام الشافعي هو الجهل المطلق بأحكام التكليف المفترض في المكلف معرفتها كأصول الدين وقواعده المعروفة، أما الجهل فيما يحتمل فيه الجهل فله حكم آخر، وبمعنى آخر هناك جهل باطل، ولا يقبل معه عذر، فمن يخالف كتاب الله وسنة رسوله -ﷺ-، فيحل الحرام، ويحرم الحلال، ومن يخالف إجماع الأمة، ويجعل من هذه المخالفة عقيدة أو مذهبًا، فاجتهاده في كل ذلك باطل.
وهناك جهل غير مشروع، ولكن صاحبه يعذر فيه لسبب ما، كالجهل في موضع الاجتهاد الصحيح، أو في موضع الشبهة([5])، ولكن كيف يعرف ما يعذر فيه؟
قبل ذلك ينبغي أن نعرف أن أحكام الشريعة أحكام رحمة تدرك طبيعة الإنسان وما يعتريها من النقص، ولهذا لم يكلفه الله إلا ما في وسعه وطاقته واحتماله، ولهذا قال -تعالى-:{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286]، وقال -تعالى- لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين} [الأنبياء:107]، وقال رسوله -ﷺ-: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»([6])، وفي رواية أخرى: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»([7]).
ويعرف الجهل المعذور فيه بما لا يمكن الاحتراز عنه عادة، وفي الفقه عدد من الأمثلة لذلك.
منها: لو أكل طعامًا نجسًا يظنه طاهرًا فهذا جهل يعفى عنه؛ لما في تكرر الفحص عن ذلك من المشقة.
ومن ذلك: لو قتل مسلمًا في صفوف الأعداء ظنًّا منه أنه منهم؛ وذلك لتعذر الاحتراز من فعله.
ومن ذلك: قضاء الحاكم بشهادة شهود الزور إذا كان يجهل حالهم([8]).
ومن ذلك: لفظ المتكلم بما لا يعرف معناه ودلالته على الشيء الذي يتكلم به، كما لو نطق بكلمة كفر وهو لا يقصده؛ لأنه لا يعرف معناها في اللغة التي تكلم بها.
ومن ذلك: عدم وقوع الطلاق إذا كان المتكلم يجهل معناه، فلو قال لزوجته: أنت طالق، وهو لا يفهم ما يدل عليه قوله لم تطلق؛ لأنه ليس بمختار لذلك، فأصبح كالمكره([9]).
ومثل ذلك: من كان حديث عهد بالإسلام، فارتكب محظورًا لجهله بحرمته، أو ارتكب محظورًا يظنه مباحًا، ومثله من كان يعيش في مكان بعيد عن المعرفة، وليس فيه من يدله على المباح والمحظور.
ففي هذه الوقائع ومثلها عذر للجاهل؛ لكون إرادته لم توجه إليه بقصد، بل لجهلها بهذه الحرمة، أما إذا كان الاحتراز ممكنًا فلا يعذر من يدعي الجهل بالأحكام، وفي ذلك نقل ابن نجيم أن “من ظن لجهله أن ما فعله من المحظورات حلال، فإن كان مما يعلم من دين النبي -ﷺ- ضرورة كفر، وإلا فلا”([10])، ومن جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل، ومن علم تحريم شيء، وجهل ما يترتب عليه من أحكام، لم يفده ذلك، كمن علم تحريم الزنا والخمر، وجهل وجوب الحد، فإنه يحد بالاتفاق([11]).
وهناك أحكام يجب على من يجهلها أن يجتهد فيها، ولا عذر له في تركها، ومن ذلك: الوقت الذي يجب عليه أن يصلي فيه الصلاة المكتوبة، وعليه أن يجتهد في معرفته بما يدل عليه من أمارات؛ لأنه لا يعذر في تأخير الصلاة عن وقتها بحجة الجهل بوقتها؛ وذلك لأن الله -تعالى- توعد من يفعل ذلك في قوله -تعالى-: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون} [الماعون: 4، 5].
ومن ذلك: استقبال القبلة، فعليه أن يجتهد في معرفتها بما يدل عليها من أمارات؛ لأنه لا يعذر في الجهل بها؛ لقول الله -تعالى-: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:150].
وخلاصة المسألة: أن الجهل لا يسقط الأحكام ولا الحقوق؛ فمن جهل صلاة أو زكاة أو حجًّا وجب عليه القضاء، ومن ارتكب محرمًا بحجة الجهل، ومثله لا يرتكبه، وجبت عقوبته، ومن أتلف شيئًا لغيره لا يعذر بجهله، وعليه ضمانه.
ويعذر فقط في الجهل الذي يتعذر الاحتراز منه عادة، أما ما عداه فلا يعذر فيه.
وفي هذه المسألة: إذا كان المسافر يعرف اللغة التي تتكلم بها مضيفة الطائرة فيجب عليه الاحتراز والسؤال عن نوع الطعام الذي قدم له، أما إن كان لا يعرف ذلك، ولا يستطيعه إلا بمشقة وكلفة فلا إثم عليه؛ لأنه أصبح في حكم المخطئ، فيعذر في خطئه؛ لقول الله -تعالى-: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الكهف: 286]، وقال رسول الله -ﷺ-: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»([12]). والله أعلم.
([1]) أخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، برقم (224)، سنن ابن ماجة، ج1 ص81. قال في الزوائد: “إسناده ضعيف؛ لضعف حفص بن سليمان”، وقال السيوطي: “سئل الشيخ محيي الدين النووي-رحمه الله تعالى-عن هذا الحديث، فقال: إنه ضعيف-أي: سندًا-، وإن كان صحيحاً-أي: معنى-، وقال تلميذه جمال الدين المزي: هذا الحديث من طرق تبلغ رتبة الحسن، وهو كما قال”.
([3]) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص33.
([5]) انظر ما فصله ابن نجيم في الأشباه والنظائر عن أنواع الجهل عند أهل الأصول.
([6]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، سنن ابن ماجة، ج1 ص659، برقم (2043)، قال: “في الزوائد إسناده ضعيف؛ لاتفاقهم على ضعف أبي بكر الهذلي”. قال الحافظ ابن حجر في التقريب ص625: “أبو بكر الهذلي، قيل: اسمه سُلْمَى، بضم المهملة، ابن عبد الله، وقيل: روح، أخباري متروك الحديث، من السادسة، مات سنة سبع وستين”.
([7]) رواه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم (2045)، سنن ابن ماجة، ج1 ص659، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٦٧٧).
([8]) الفروق للقرافي، ج2 ص148-149.
([9]) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص132.
([11]) الأشباه والنظائر، ص304.
([12]) رواه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم (2045)، سنن ابن ماجة، ج1 ص659، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٦٧٥).