والجواب: أنه يحق للدائن الأخذ من مال مدينه مقدار دينه، سواء كان هذا المال تحت يده، أو كان يستطيع الحصول عليه بسبب معقول وسهل كما سنرى، والأصل في هذا قضية هند بنت عتبة بن ربيعة مع زوجها أبي سفيان -رضي الله عنهم-، فقد اشتكته إلى رسول الله -ﷺ-قائلة: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال -عليه الصلاة والسلام-: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)([1])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (من وجد ماله عند رجل فهو أحق به)([2]).
وقد بنى الفقهاء آراءَهم في هذه المسألة على هذه القاعدة.
ففي المذهب الحنفي: يجوز للدائن أخذ دينه من دراهم المديون إذا ظفر بها، على أن يتوافر في ذلك شرطان:
أولهما: ألا يكون الدين مؤجلًا.
وثانيهما: ألا تكون الدراهم أجود، كما إذا وجد دنانير، وله دراهم([3]).
وعند الإمام الشافعي: أنه إذا كان للرجل على الرجل حق بأي وجه ما، فمنعَه إياه، فله الحق أن يأخذ من ماله حيث وجده سرًّا وعلانيةً، ومن ذلك: حق ولده الصغير، وحق من هو قيمه بماله ممن توكله أو كفله([4]).
وظاهر المذهب الحنبلي: جواز استيفاء الحق من مال الغريم إذا كان هناك سبب ظاهر يحال الآخذ عليه، ولكن لا يجوز إذا كان السبب خفيًّا، فيباح للمرأة الأخذ من مال زوجها نفقتها، ونفقة أولادها بالمعروف، ويباح للضيف الأخذ من مال من نزل بهم، ولم يضيفوه، ويشترط في الأخذ أن يكون بالقدر المعقول، وأن يكون السبب ظاهرًا؛ لأن الأخذ بالسبب الخفي يُنْسبُ إلى الخيانة([5]).
وقد أفاض في هذه القضية الإمام ابن تيمية -رحمه الله -، وفرق فيها بين نوعين:
النوع الأول: أن يكون سبب الاستحقاق ظاهرًا لا يحتاج إلى إثبات، كنفقة المرأة على زوجها، ونفقة الولد على والده، وحق الضيف على من نزل به، ففي هذه الأحوال يحق الأخذ بدون إذن من عليه الحق بلا ريب؛ لحديث هند بنت عتبة المتقدم ذكره، كما ينبني على ذلك حق من علم أنه غُصب منه ماله غصبًا ظاهرًا يعرفه الناس أن يأخذ المغصوب أو نظيره من مال الغاصب.
النوع الثاني: أن يكون سبب الاستحقاق غير ظاهر، كما لو جحد المدينُ الدينَ، والغاصبُ المغصوبَ، وليس للمدعي بينة، فهذا فيه قولان:
أحدهما: عدم جواز الأخذ، وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما روي عن أبي هريرة عن النبي -ﷺ-: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)([6])، وما روي كذلك عن بشير بن الخصاصية أنه قال: يا رسول الله! إن لنا جيرانًا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، فإذا قدرنا لهم على شيء أناخذه؟، فقال: (لا، أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)([7]).
وثاني القولين: جواز الأخذ، ويرى أصحابه إنه إذا امتنع مَن عليه الحق عن أداء الواجب عليه ثبتت المعارضة بدون إذنه للحاجة([8]).
وقد أفرد الإمام ابن حزم في ذلك مسألة، فرأى أن “من غصب آخر مالًا، أو خانه فيه، أو أقرضه، فمات، ولم يشهد له به، ولا بينة له، فظفر للذي حقه قبله بمال، أو ائتمنه عليه، سواء كان من نوع ماله عنده، أو من غير نوعه، وكل ذلك سواء، وفرض عليه أن يأخذه، ويجتهد في معرفة ثمنه، فإذا عرف أقصاه باع منه بقدر حقه، فإن كان في ذلك ضرر، فإن شاء باعه، وإن شاء أخذه لنفسه حلالًا”([9]).
وينبني على ما ذكر حق العامل في أخذ أجره من مال رب عمله إذا ولِيه، وبدون إذنه؛ لأن انتظاره المطالبة بحقه قد يضره، ويعطله عن كسب عيشه، وقد أمر رسول الله -ﷺ-بالمسارعة في إعطائه حقه بقوله: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)([10])، ولكن حق العامل في أخذ أجره من مال رب عمله بدون إذن لا يعني بأي حال الاعتداء على هذا المال بالقوة كالسطو، والسرقة ونحو ذلك؛ لأن هذا الفعل يعدُّ أصلًا جريمة لا تبرر بأي حال حصوله على حقه، وإنما المقصود ما قد يقع في يده بشكل مباشر، كما لو سلمه مالًا لدفعه لآخر، أو لإيداعه في البنك، أو نحو ذلك، أو بشكل غير مباشر، كما لو سلمه أحدهم مبلغًا من المال لإيصاله إليه، أو نحو ذلك من الطرق السهلة، ويقاس على هذا حق الزوجة في نفقتها على زوجها، وحق الولد على والده، وحق الوالد على ولده، وحق المُقرض على المُقترِض، ونحوهم، وفي كل الأحوال يجب أن يكون سبب الحق ظاهرًا، وألا يأخذ صاحب الحق أو الدين أكثر من حقه أو دينه، هذا مع التأكيد على أن المقصود هو ما إذا حصل صاحب الحق على حقه بالطرق السهلة، أما الأصل فهو بلا ريب استعداء ولي الأمر في الحصول على الحق.
والله أعلم.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب النفقات، باب “إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف”، صحيح البخاري ج6 ص 193.
([2]) أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب البيوع، برقم (103، 104)، ج3 ص28، قال شمس الحق العظيم آبادي في تعليقه على الحديث بهامش سنن الدارقطني: “حديث سمرة أخرجه-أيضًا-أحمد وأبو داود، قال في الفتح: وإسناده حسن، وهو من رواية الحسن البصري عنه”، حسنه شعيب الأرنؤوط في تخريج سنن أبي داود، (٣٥٣١).
([3]) انظر: حاشية الطحطاوي على الدر المختار، ج3 ص106.
([4]) الأم للإمام الشافعي، ج5 ص100-101.
([5]) القواعد لابن رجب، ص17، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع، ج5 ص479.
([6]) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، برقم (3535)، سنن أبي داود، ج3 ص290، قال الألباني في هداية الرواة،(٢٨٦٤): إسناده صحيح على شرط مسلم.
([7]) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج30 ص372، والحديث سبق تخريجه صححه الألباني في إرواء الغليل، (١٥٤٤)..
([8]) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج30 ص371- 373.
([9]) المحلى بالآثار، ج6 ص490-491.
([10]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الرهون، باب أجر الأجراء، برقم (2443)، سنن ابن ماجة، ج2 ص817، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٩٩٥).