ومفاد المسالة: أن الدائن قد طلب من مدينه أن يوفيه حقه مما يملكه من أرض وعقار وخلاف ذلك، إلا أن المدين ادعى أنه لا يملك شيئًا، وأن ما لديه من أرض وعقار قد بيع سلفًا، فاحتج الدائن أن مدينه قـد باع الأرض والعقـار على زوجته وأحد أقاربه، وأن قصده من ذلك التهرب من الوفاء.

صحـة البيع بعقد صوري للتهرب من الدائنين

ويسأل عن مدى صحـة هذا البيع، وأثره بالنسبة له ولغيره من الدائنين.

والجواب: أن مـدار هذا البيع في الغالب التواطؤ؛ للتخلص من دين ونحوه، ويحدث هذا بعدة صور:

منها: ما ورد في السؤال عندما أراد المدين أن يتهرب من دائنه ببيع أرضه وعقاره على زوجته، فيأمن بذلك من التنفيذ على ماله من قبل دائنه أو دائنيه.

ومن هذه الصور: تواطؤ البائع مع المشتري على رفع ثمن عقار أو مزرعة أو نحو ذلك، بحيث يستكثره من له حق الشفعة، فيسقط حقه فيها.

ومن هذه الصور: تحايل المدين المفلس حين يقر بدين صوري لمن يثق فيهم من أقاربه أو أصدقائه؛ لكي يضمن مقاسمتهم للدائنين الحقيقيين، ومن ثم تعود بعض أمواله إليه عن طريق هذا التواطؤ.

ولما كان الرضـا من شروط البيع فقد أبطل الإسلام كل بيع ينعدم فيه الرضا؛ لقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29]، وقول رسول الله -ﷺ-: (إنما البيع عن تراض)([1]).

ومن البيوع التي ينعدم فيها الرضا: البيع الصوري، أو بيع التلجئة كما يسميه الفقهـاء، فرغم أن المتعاقدين يتواطآن في هذا البيع على عمل معين، ويرضيانه، إلا أن رضاهما ليس حقيقيا؛ مما يفقد البيع معناه الحقيقي، ويجرده من صفته الشرعية، ويعد هذا البيع باطلًا في قول للإمام أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وفي رواية أخرى عن الإمام أن هذا البيع جائز([2]).

وفي مذهب الإمام مالك: يعد هذا البيع من البيوع الفاسدة؛ “لأن المتعاوضين قصدا إظهار فعل ما يجوز؛ ليتوصلا به إلى ما لا يجوز، وتذرعا بشيء جائز في الظاهر إلى باطن ممنوع في الشريعة سدًّا للذريعة”([3]).

ويتفق مذهب الإمام الشافعي مع ما روي عن الإمام أبي حنيفة من صحة هذا البيع، فإذا اتفق المتعاقدان على أنهما عقدا البيع ظاهرًا لا حقيقة فالبيع هنا يقع، ولا أثر لاتفاقهما، وإذا اتفقا على أن قيمة البيع مثلًا ألف، وأظهراه ألفين انعقد البيع بالألفين([4]).

وفي مذهب الإمام أحمـد: يعد بيع التلجئة باطلًا؛ لأن المتبايعين لم يقصدا البيع حقيقة، فأصبحا كالهازلين([5]).

وخلاصة المسألة: أن البيع الصوري أو بيع التلجئة سواءٌ كان ذلك في دين أو شفعة أو نحو ذلك يعد باطلًا في أكثر أقوال الفقهاء..، وبهذا فالقول قول من يدعي أن البيع تم بهذه الصورة إذا كانت الدلائل تدل عليه.

وينبني على ما سبق أن بيع المدين لعقاره وأرضه على زوجته وقريبه يُعد -كما يبدو- بيعًا صـوريًّا للتهرب من وفاء دينه، وتبقى المسألة مسألة إثبات، وعندئذ لا أثر لهذا البيع بالنسبة لدائنيه.

والله أعلم.

([1]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب بيع الخيار، برقم (٢١٨٥)، سن ابن ماجة ج2، ص 736-737، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٧٩٢).

([2]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج5 ص١٧٦-۱۷۷، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج5 ص ۲۷۳-۲۷6.

([3]) التاج والإكليل المختصر لمختصر خليل للمواق، بهامش مواهب الجليل للحطاب، ج4 ص388-389.

([4]) المجموع شرح المهذب للنووي ج1 ص٣٣٤.

([5]) انظر: المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج4 ص ٤٣، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج3 ص149 وشرح منتهى الإرادات البهوتي، ج۲ ص ١٤٠.