والجواب على هذا من وجهين: أولهما: النص على تحريم الخمر وما يجب على المسلم من اجتنابها. وثانيهما: مسألة من يشرب الخمر وهو يصلي.
تحريم الخمر:
من المعلوم من الدين بالضرورة، أن الخمر محرَّمة في دين الإسلام؛ تعاطيًا وبيعًا وشراء وتجارة وخلاف ذلك.
والأصل في هذا الكتاب والسنة والاجماع والمعقول:
أما الكتاب: فإن الله تعالى حرم فيه الخمر بتتابع نزول الآيات وتدرج الحكم حتى أنزل الله تحريمه قاطعًا؛ ذلك أن بيئة الجاهلية كانت مفتونة بالخمر والقمار، وكانت دعوة رسول الله ﷺ في بدايتها، دعوة إلى التوحيد، والإيمان بالله، ونبذ الشرك وعبادة الأصنام، ومعرفة ما خلقهم الله له من طاعته.
ولما استقرت الدعوة في المدينة، وبدأت أحكام التشريع تنزل شيئًا فشيئًا، نزل تحريم الخمر بالتدرج؛ ذلك أن أحد الصحابة صلى بالناس وهو سكران، فخلط في صلاته، فنزل قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}([1]). وعلى أثر نزول هذه الآية تساءل الناس، وتحادثوا فيما بينهم حول شرب الخمر، والوقت الذي يكون فيه شربها، فنزل قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}([2]). فأعرض عنها كثير من الناس، بحكم غلبة الإثم فيها على نفعها، غير أن آخرين لم يروا أن ما نزل فيها، يدل قطعًا على تحريمها، فنزل قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}([3]). {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون}([4]). وبهذه الآية حرمت الخمر والميسر تحريمًا قطعيًا، بدلالة قول الله تعالى: { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون}.أي بما يعنيه الحكم في هذه الآية من بيان طبيعة الخمر وكونها عمل من أعمال الشيطان، يريد بها إيقاع العداوة سواء بين العبد وخالقه والصد عن ذكره، وعن صلته به، أو بين العبد وغيره من بني جنسه.
أما ما جاء في السنة عن تحريم الخمر: فقد روى أبو سعيد أن رسول الله ﷺ قال: (يا أيها الناس إن الله يبغض الخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرًا، فمن كان عنده منها شيء، فليبعه، ولينتفع به). قال فما لبثنا إلا يسيرًا؛ حتى قال رسول الله ﷺ: (إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية، وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع). قال فاستقبل الناس بما كان عندهم منها، طرق المدينة فسفكوها([5])، وروى جابر أن رجلًا من جيشان (من اليمن) سأل رسول الله ﷺ عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له المزر فقال: (أمسكر هو؟) قال: نعم، فقال: (كل مسكر حرام، وأن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)، قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: (عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)([6]). وروى أبو موسى أنه قال: قلت يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البِتعُ وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد، قال وكان رسول الله ﷺ قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه فقال: (كل مسكر حرام)([7]).
فهذه الأحاديث جزء قليل مما ورد في تحريم الخمر تعاطيًا وبيعًا وشراءًا واتجارًا.
أما الإجماع على تحريمها: فقد أجمعت الأمة منذ أن نزل القرآن على أنها محرمة في جنسها، وفي قليلها وكثيرها، وسواء كان ذلك للاتجار، أو التداوي، أو التلذذ بها، أو بأي طريق أو صفة تستعمل فيها، وأن من يستحلها، وهو عالم بذلك، يعد منكرًا لكتاب الله وسنة رسوله محمد ﷺ. كما أجمعت الأمة على أنه يدخل في هذا التحريم كل مسكر سواء كان مسماه خمرًا بالاسم المعروف، أو بأي اسم آخر كالمخدرات بأنواعها ومشتقاتها وأوصافها ومختلف أسمائها؛ بل إن المخدرات تعد أخطر وأشد في التحريم لما ينتج عن تعاطيها من تدمير العقل والجسم وهلاك النفس.
وأما المعقول في تحريم الخمر: فإن الله عندما وهب الإنسان العقل أراد له أن يدرك بعقله ما ينفعه وما يضره؛ فإذا شرب الخمر من أي نوع من أنواعها أصبح في حل من عقله، وإدراك تصرفه فيتحول حينئذٍ إلى مجرد إنسان بلا عقل، يفعل ما لا يريد، ويتصرف خلاف ما يرغب؛ فيكون في فعله وتصرفه هذا ضرر لنفسه وضرر لغيره، فأما ضرره لنفسه فقد يكون بإتلافها وإتلاف ماله وهلاك ماله وولده وزوجه. وأما ضرره لغيره فقد يكون سكره مدعاة للتعدي عليه في نفسه وولده وماله وهكذا.
مسألة من يصلي ولكنه يشرب الخمر:
الأصل أن المسلم يلتزم بإسلامه فيكون على الحال التي أراد الله له أن يكون عليها من الائتمار بأمره، والانتهاء عن نهيه، ومع ذلك فإنه حين يرتكب معصية كشرب الخمر، (وهو غير منكر لتحريمها) يظل مسلمًا؛ لأن إسلامه لا يقتضي منه العصمة فهذه للأنبياء وحدهم؛ ولكن المعصية ينبغي أن تكون طارئة عليه لا ملازمة له، وأسباب وقوعها كثيرة.
منها ما قد يتعرض له من وسوسة الشيطان وضلاله بدليل قول رسول الله ﷺ: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)([8]). ومنها ما يكون بسبب ضعف إرادته، وانزلاق نفسه وغلبة هواه ومنها ما يكون بفعل مخالطته لمن يرتكب الخطيئة، وتأثيره عليه فكل هذه الأسباب ونحوها مدعاة؛ لأنزلاق المسلم في الخطيئة، وانغماسه فيها، وقد عَلِم الله هذا منه، ففتح له أبوابًا يدخل منها إلى رحمته، ويخرج منها من غضبه؛ وذلك حين ينقلب على نفسه فيستقيم سلوكه، ويعود إلى رشده، ويندم على فعله، ويعقد نيته على الخروج من معصيته، وعندئذٍ سيجد أن الله عز وجل قد عرف سريرته، فهيأ له من أسباب الهدى ما تطمئن به نفسه، فيعود إلى حقيقة الإيمان، وفي هذا قال الله عزوجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}([9])، وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون}([10])، وقال عزوجل: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون}([11])، {لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِين}([12])،{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون}([13]).
فدعوة الله للمؤمن بالتوبة في الآية الأولى دعوة لصلاحه وفلاحه ولا يجد المؤمن لذة هذه التوبة إلا حين تتعلق نفسه بخالقه فيدرك في قرارة نفسه أن الله قد تاب عليه بعد أن فعل ما أمره به. ووعد الله للذين يعملون الصالحات بتكفير سيئاتهم في الآيات الأخرى، دعوة للمؤمن أن ينقلب على نفسه حين تستبد به فتسقطه في حمأة الخطيئة، ليعود بذلك إلى إيمانه، فيضاعف الله حسناته.
وأكثر من هذا أن الله يبدل سيئاته حسنات، إذا تاب وآمن وعمل صالحًا؛ فبعد أن ذكر الله عددًا من الكبائر والذنوب كالشرك، وقتل النفس، والزنى قال عز وجل: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}([14])، وفي الحديث القدسي: (أذنب عبدي فقال: اللهم أغفر لي ذنبي، فقال الله عزوجل: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب أغفر لي ذنبي، فقال الله تعالى: أذنب عبدي ذنبًا وعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: يا رب أغفر لي، فقال الله تعالى: أذنب عبدي فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب إعمل ما شئت فقد غفرت لك)([15]).
وفي الحديث الآخر قال رسول الله ﷺ: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم)([16]).
قلت: ولا يعني هذا -بأي حال- أن يرتكب المسلم المعاصي ويستمر عليها، ويستمرئها بحجة أن الله سيغفر له. إن رحمة الله قد وسعت كل شيء، والمسلم ينبغي له أن يتطلع إلى رحمة الله وغفرانه، فما من أحد يدخل الجنة بعمله، وفي هذا قال رسول الله ﷺ: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)([17])، ولكن رحمة الله أقرب ما تكون للعبد إذا تاب إلى الله من سيئاته وأخلص في توبته؛ وهذا يقتضي التوبة الصادقة من المعصية، والتوبة تقتضي أن يكون العاصي جاهلًا بما عمل غير عالم به ومصر عليه، وأن تكون توبته مباشرة لمعصيته، ومصداق ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيما}([18])، {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ } الآية([19]).
والحكمة في هذا واضحة، فإن المصر على المعصية، العالم والمدرك لما يفعل، ممعن في عدم الانتهاء عما نهى الله عنه، والمسوّف للتوبة حري أن تتوق نفسه إليها، فلا يبرح إلا أن يرتكب مثلها، وعلى الأخص شرب الخمر والزنى والسرقة، فهذه معاصٍ تستحوذ شهوتها، ولذتها على مرتكبها ما لم يتب إلى الله منها بشروط التوبة المعلومة، وهي تركها، والندم عليها، والعزم على عدم العودة إليها.
إن هذا المسلم الذي ورد حاله في السؤال يصلي، فلعل صلاته تنهاه عن المعصية؛ لأنها صلة بينه وبين ربه، فإذا أقام هذه الصلاة كما يجب أن تقام اطمأنت نفسه ووعى قلبه ما يجب عليه من طهارة النفس وطهارة الجسد من الفواحش والأدران، والمنكرات مصداقًا لقول الله عزوجل: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}([20]).
وخلاصة المسألة: أن الخمر محرمة بنص الكتاب والسنة والاجماع والمعقول وأن من يشربها (غير منكر لحرمتها) يعد عاصيًا، ولكنه يظل مسلمًا؛ لأن إسلامه لا يقتضي منه العصمة فهذه للأنبياء وحدهم. فإن شربها وهو منكر لحرمتها كان منكرًا للكتاب والسنة. وارتكاب المسلم للمعصية يقتضي منه التوبة المباشرة بشروطها المعلومة.
والله أعلم.
([1]) سورة النساء من الآية 43.
([2]) سورة البقرة من الآية 219.
([5]) رواه مسلم في الصحيح عن عبيد الله بن عمر القواريري، ج6 ص12.
([6]) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الأشرب، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام وبروايات مختلفة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج13 ص171.
([7]) أخرجه البخاري (٢٤٢)، وأخرجه مسلم (٢٠٠١)، أخرجه الترمذي في أبواب الأشربة، باب ما جاء كل مسكر حرام، تحفة الأحوذي للمباركفوري، ج5 ص489-490.
([8]) أخرجه البخاري، (٧١٧١)، سنن ابن ماجة ج1 ص565-566، كتاب الصيام، باب في المعتكف يزوره أهله في المسجد، برقم (1779).
([15]) أخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت، صحيح مسلم بشرح النووي، ج17 ص75-76.
([16]) أخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة، برقم (2749)، صحيح مسلم مع شرحه إكمال المعلم ومكمّل الإكمال للإمامين الأبي والحسني، ج9 ص158.
([17]) البخاري ج10 ص109 في المرض باب: تمني المريض الموت.